حول أحداث باریس عولمة العنف وعمى السیاسة إلى أین؟ | ||
حول أحداث باریس عولمة العنف وعمى السیاسة إلى أین؟
د.أحمد القدیدی ” .. الکمبیوتر العادی أو الهاتف الذکی الذی بین یدیک یضعک آلیا وآنیا فی دوامة أحداث العالم لحظة بلحظة ویجعلک أنت نفسک متفاعلا مع تلک الأحداث بفداحتها ومعلقا علیها ومستقبلا لآخر مستجداتها بل وموزعا نشیطا لها على ذویک وأصحابک وآلاف المجهولین المتفاعلین معک ! وهو ما حدث کامل لیلة الجمعة الماضی إلى فجر السبت انطلاقا من العمل الإرهابی فی قلب باریس!” لو شئنا وضع عنوان للمرحلة التی نعیشها منذ انبلاج فجر القرن الحادی والعشرین لاخترنا بدون تردد عنوان (عولمة العنف أو عمى البصائر) وهی حلقة نکاد نقول طبیعیة من حلقات مسلسل العولمة الاقتصادیة والعولمة البیئیة والعولمة الوبائیة والعولمة الرقمیة والعولمة الثقافیة … وصولا إلى زوال الحدود أمام العنف والقتل والارهاب. عالم الیوم عالم مفتوح یعیش مرحلة مخاض عسیر لا نعرف ماهیة الجنین الذی سیولد من أرحام عصرنا الحاضر هل هو مولود سوی أم مولود مشوه أم مولود میت؟ إن الذی حدث فی قلب عاصمة فرنسا لیلة الجمعة الماضی هو تأکید لهذه النظریة وترسیخ لهذا الواقع: الانسانیة کلها على أعتاب عصر جدید ربما تسرع بعض السیاسیین وسماه عصر الحرب العالمیة الثالثة ضد الإرهاب (مثل بوتین و أوباما) وربما تجرأ البعض الآخر فوصفه بعصر نهایة التاریخ وسیادة اللیبرالیة (مثل فرنسیس فوکویاما) ونعته البعض الثالث بأنه عصر صدام الحضارات (مثل صامویل هنتنجتون) ولکنی أمیل إلى تعریف رابع غفل عنه أغلب الخبراء وهو أننا نعیش عصر العمى السیاسی وغیاب البصیرة الحضاریة مما جعلنا نعمى عن حقائق ساطعة لا نراها ولا نعتبر بالتاریخ فتستمر الفواجع ویطل علینا لیل طویل من الویلات والکوارث. وهو ما أبدع فی تأکیده رئیس الحکومة الفرنسی الأسبق (دومینیک دو فیلبان) بعد الاعتداءات. نظریة العمى أصدرها صاحبها المؤرخ الفرنسی الشهیر (مارک فیرو) فی کتاب نشرته مؤسسة (تایلندییه) الباریسیة منذ أسابیع قلیلة وبادرت بمطالعته وعنوانه هو:L’aveuglement:une autre histoire de notre monde وترجمته هی (العمى. تاریخ مختلف لعالمنا) وهو کتاب قیم ینیر ما التبس علینا کعهدنا بهذا المؤرخ الأمین والمتعمق والمحاید. فهو فی 400 صفحة یعدد للقراء کل الحروب التی کان بإمکان العالم تفادیها لو فتح الناس بصیرتهم وحللوا الواقع واهتدوا للحلول. حین یصل المؤرخ الى عصرنا الراهن واتساع رقعة الإرهاب فیؤکد العالم النزیه أن النظام العالمی الذی نشأ بعد الحرب الکونیة الثانیة هو نظام جائر یحمل فی جیناته بذور العنف الأعمى وهو ما سیضع البشریة کلها على فوهة برکان لن یتأخر عن الانفجار و إلقاء الحمم. یحلل الکاتب لماذا لم یر السیاسیون کیف اندلعت الحرب العالمیة الأولى سنة 1914 و کیف أعقبتها الحرب العالمیة الثانیة سنة 1939 و کیف تحولت الامبراطوریة القیصریة الروسیة إلى الاتحاد السوفییتی ودکتاتوریة البرولیتاریا ثم إلى أکبر ماکینة عملاقة لقمع الحریات وإنتاج البؤس؟ لم یر العالم أیضا کیف مسخ الاستعمار الغربی نفسه من حضور فی الحقول إلى استعمار عشش فی العقول؟ فتحولت أمم لدیها تراث وحضارة إلى مسوخ تابعة؟ لم یر کیف تصاب مجتمعات فی شمال الأرض بالتخمة وتموت مجتمعات فی جنوبها من جوع وعطش؟ هذا هو العمى الذی أصاب أبصار النخب الحاکمة التی هندست النظام العالمی الجائر. الیوم عجز نفس العمیان عن إیجاد حل عادل لقضیة فلسطین وعن مساعدة الدول المشرقیة والإفریقیة على التحول للدیمقراطیة واحترام حقوق الإنسان فقامت فیها وبینها أزمات مروعة تحولت إلى حروب أهلیة واجتاحت مئات الآلاف من العائلات القارة الأوروبیة بحثا عن الأمان ولقمة العیش! وانتقل العنف المحلی إلى مدن أوروبا نفسها حین انتقلت طائرات الغرب تقصف مدن المشرق. نعم یقول (مارک فیرو) نحن عمیان کما کنا وأصبحنا نعیش فی عالم بلا حدود رغم ما ابتکرته الدول من جدران عالیة ومن خنادق عمیقة ومن أسلاک مکهربة بقصد التمترس بغایة انعزالها عن مصائب الدنیا! فالکمبیوتر العادی أو الهاتف الذکی الذی بین یدیک یضعک آلیا وآنیا فی دوامة أحداث العالم لحظة بلحظة ویجعلک أنت نفسک متفاعلا مع تلک الأحداث بفداحتها ومعلقا علیها ومستقبلا لآخر مستجداتها بل وموزعا نشیطا لها على ذویک وأصحابک وآلاف المجهولین المتفاعلین معک! وهو ما حدث کامل لیلة الجمعة الماضی إلى فجر السبت انطلاقا من العمل الإرهابی فی قلب باریس! فکیف والحالة هذه ننجو من اختراق العنف لأخص خواصنا؟ أنا نفسی لیلة السبت الماضی عند سماعی أخبار القتل فی ثلاثة مواقع باریسیة بادرت إلى الهاتف الجوال أسأل عن أخبار أولادی الأربع وهم یعیشون فی ضواحی باریس (نتیجة المنفى القسری الذی فرضته علی وعلى الآلاف دولة طاغیة جهولة سنة 1986 فی مرحلة خرف الزعیم بورقیبة) لأطمئن على أولادی هل هم فی بیوتهم ام أن أحدهم کان فی ملعب (سان دونی) أو مسرح (باتاکلان) وهی عاطفة الأبوة الغریزیة تحرکت بعفویة لتطمئن على فلذات الأکباد مهما کبروا! ثم هو تصرف ناجم عن إیمانی بأن لا أحد یمکن أن یکون فی مأمن أمین من الإرهاب مهما کان بعده عن السیاسة فالعنف أصبح أعمى (مثل عمى البصائر عن العدل والحق) أینما مورس واستوى الحال أن یموت أبریاء یشاهدون مقابلة کرة قدم بین فرنسا وألمانیا أو أبریاء فی ضواحی حلب أو الحلة أو ریف إدلب دکت البرامیل االمتفجرة أو القنابل الروسیة أو الأمیرکیة أو الفرنسیة أو البریطانیة بیوتهم فوق رؤوسهم ورؤوس أطفالهم! هؤلاء جمیعا أبریاء بنفس المستوى وبنفس البراءة ویستحقون نفس الرحمة. هذا هو عنوان العهد الجدید: عولمة القتل بلا حدود وبلا غایة وبلا عقیدة وبلا أخلاق. أی فی النهایة عولمة عمیاء وجائرة وأملنا هو ألا تکتفی دول ما نسمیه المجتمع الدولی بمعالجات أمنیة متسرعة وهی ضروریة بالطبع لکن معالجة جذور الإرهاب على المدى الطویل تکمن فی تحقیق الإصلاحات الکبرى والاعتراف بحق الشعوب فی تقریر مصیرها والتنعم بالحریة وتقاسم ثمار التقدم وهذا لن یتحقق إلا بتعدیل النظام العالمی الظالم….والأعمى. ولله الأمر من قبل ومن بعد ولله ترجع المصائر وهو القادر على فتح البصائر.
الوطن العمانیة | ||
الإحصائيات مشاهدة: 744 |
||