من "شارل إبدو الى باتاکلان" : الإرهاب والإرهاب المضاد (1) | ||
من "شارل إبدو الى باتاکلان" : الإرهاب والإرهاب المضاد (1)
فی زمن المعاییر المزدوجة واختلاط المفاهیم ، یبدو التوصّل الى مقاربة صحیحة لمعنى " الإرهاب " مهمة صعبة ، إذا لم یکن ضرباً من الخیال . لا نقول هذا التفافاً على الحقیقة الساطعة وهی ان الإرهاب بکل اشکاله ومستویاته ومُسبّبیه ، هو عمل مرفوض ومستنکر ومُشین سواء وقع فی بلداننا ومنطقتنا أو فی أیة دولة من العالم. فالمؤکد أن ما حدث لیل الجمعة ـ السبت 14/ نوفمبر/ 2015 فی العاصمة الفرنسیة باریس ، لایخرج عن هذا المضمار أبداً ، وان سقوط مئات الضحایا من المواطنین الأبریاء بین قتیل وجریح فی تلک الجریمة البشعة دون وجه حق ، هو خطب مثیر للأسى والحزن بشکل کبیر. وان الهجمات والتفجیرات بکل تفاصیلها ووقائعها ونتائجها، عملیة ارهابیة مدانة جملة وتفصیلا ، وهی تعبّر عن مستوى إنحطاط الإرهابیین الذین برهنوا بفعلتهم الإجرامیة الشنیعة على أنهم أفراد مجرّدون من أیة مبادئ دینیة وأخلاقیة وحضاریة وانسانیة.
بید أننا فی هذا المقام نرى أنفسنا مدعوّین کذلک الى استیعاب هذه المعطیات الالیمة على اساس من الوعی والإحاطة والشمول لئلا نقع فی مطبات تصل بنا الى طریق مسدود. ولکیلا یختلط الحابل بالنابل فتصبح معرفة الحقائق أمراًعسیراً. ویعنی هذا ان علینا أن ننظر الى ما حصل فی "باتاکلان" ونقاط اخرى من باریس ، نظرة شفیفة ینبغی ان تضع النقاط على الحروف ، وأن لا نتردد فی وصفه بأنه إرهاب مضادّ جاء ردّاً على مشارکة فرنسا فی منظومة الإرهاب الدولی التی تتزعمه الإدارة الأمیرکیة فی منطقة الشرق الأوسط تحت ذریعة " محاربة الإرهاب والتطرف" منذ عام 2001 على أعقاب هجمات نیویورک 11 سبتمبر وحتى الآن.
لاجرم أن من العبث ان تتجاهل فرنسا دورها المفضوح فی تأجیج الفوضى العارمة التی تجتاح "الشرق الأوسط" ، المبتلى دولها وشعوبها وثرواتها ، بأجندات " نظریة الفوضى الخلاقة " الأمیرکیة الصنع ومشروع الشرق الاوسط الجدید القائم على أرضیة تجزئة المنطقة بشکل أکثر وإعادة رسم خارطتها بما یفضی الى مزید من السیطرة على مقدرات الامة الإسلامیة والعربیة ، والى منح زخم أکبر من القوة والمنعة والتسلط الى الى الکیان الصهیونی الغاصب لفلسطین والقدس الشریف.
فمن المهم بل من الواجب على فرنسا ، الإعتراف بأخطائها الفادحة على مستوى تمزیق الأمن والسلام الإقلیمیین وتسعیر نیران الفتنة والإحتقان والحروب الأهلیة فی المنطقة ، لاسیما فی لبنان وسوریا ولیبیا ، اضافة الى انتقائیتها فی تقییم الجرائم الارهابیة فی الشرق الأوسط وغرب آسیا حسب ما تشتهی معاییرها المزدوجة ، فضلا عن مؤامراتها الخبیثة فی الإساءة الى النبی الأکرم محمد (ص) والمقدسات الاسلامیة والدینیة عبر ما نشرته مجلة " شارل إبدو" الألحادیة المستهترة، وذلک بدعاوى " حریة الرأی " والتی تسببت فی الهجوم على مقر المجلة بباریس وقتل عدد من رسامیها فی کانون الثانی عام 2015.
وخلافا للقیم الأخلاقیة والحضاریة فقد استغلت باریس هذه الحادثة لتصعید حدة الکراهیة ضد المسلمین وتکریس مقولة " الإسلام فوبیا" المغرضة فی البلاد بخاصة وفی اوروبا بعامة أکثر فأکثر. کما استغلتها لاحقا فی صب جام غضبها واحقادها العنصریة على الجالیات الإسلامیة الکبیرة التی باتت تتبرم بشکل کبیر من المضایقات الأمنیة والبولیسیة والإستخباریة الفرنسیة ضدهم.
ولقد تجلت هذه الکراهیة المقیتة مؤخرا من خلال القیود الحدیدیة الصارمة التی طبقتها فرنسا على جمهور اللاجئین المغتربین الذین تدمّرت اوطانهم وشردتهم الحروب بالوکالة التی تنفذها داعش وجبهة النصرة فی سوریا والعراق، فضاقت بهم مرابعهم بعدما تحولت الى جحیم مطلق بفعل جرائم التکفیریین وانعدام السلم الأهلی، وقد تقطعت بهم السبل ولم یجدوا مفراً سوى اللجوء الى دول اوروبا ومنها فرنسا. بید ان الأخیرة مارست قدراً لایطاق من الضغوط والتعسف اللاإنسانی منعاً من دخول المهاجرین المغلوبین على أمرهم الى داخل أراضیها.
کما أن تناغم السلطات الفرنسیة مع بعض الأفرقاء اللبنانیین المتورطین حتى النخاع فی دعم الجماعات التکفیریة المسلحة وأعمالها التخریبیة والإجرامیة والإنتحاریة ، یعطی دلیلا آخرعلى سیاسة الکیل بمکیالین التی تطبقها باریس فی تعاملها مع الإرهاب واسبابه وتصنیفه وفقا لإنتقائیتها المذکورة ، ولاشک فی ان هذه الإزدواجیة هی التی حرّضت الإرهابیین المدعومین من حلفاء فرنسا فی الساحة السیاسیة اللبنانیة على تفجیر ضاحیة بیروت الآهلة بالسکان المدنیین والمعروفة بأسواقها الشعبیة المزدحمة على الدوام بالرواد.
من الثابت ـ إذاً ـ ان فرنسا تتحمل مسؤولیة واضحة فی جریمة منطقة برج البراجنة یوم الخمیس 12 نوفمبر 2015 والتی راح ضحیتها نحو 300 من المواطنین الأبریاء شهداء وجرحى بفعل الجریمة النکراء التی تبنتها " داعش " ، وهذا مایتعین ان تعیه باریس بدقة ، على اعتبار ان مرتکبی جریمتی "الضاحیة الجنوبیة لبیروت" و " وسط باریس " المکتظ ایضا بالناس الآمنین، هم ینتمون الى نفس تنظیم داعش الارهابی. وازاء ذلک بات واضحاً ان النار التی تضرمه فرنسا فی لبنان منذ سنوات قد امتدت الى دیارها من حیث تدری أو لاتدری. حمید حلمی زادة
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 846 |
||