ترکیا: من «البکستنة».. إلى «الأفغنة»! محمد نور الدین | ||
ترکیا: من «البکستنة».. إلى «الأفغنة»! محمد نور الدین
طرح تفجیر أنقرة المزدوج الذی حصل السبت الماضی مدى قابلیة أن تتحوّل ترکیا الى أفغانستان أخرى، بعدما تحوّلت فعلاً الى باکستان أخرى. لقد باتت ترکیا لحرکات المعارضة السوریة بکل فصائلها منذ وقت طویل مثل باکستان لحرکات المعارضة الأفغانیة. والمفارقة التی تجمع أن باکستان تدعم حرکات متطرفة مثل «طالبان» و «القاعدة»، وهی التنظیمات نفسها تقریباً التی تدعمها ترکیا فی سوریا، مع فارق «بسیط» هو أن درجة التوحّش عند التنظیمات السوریة المعارضة التی تدعمها ترکیا أکبر بکثیر، ویزداد الفرق لجهة أن سلطة «حزب العدالة والتنمیة» تطرح نفسها على أنها تمثل إسلاماً معتدلاً! کذبة الإسلام المعتدل لم تنطل کثیراً على شعوب المنطقة، وأیقنت أن هذا الإسلام هو مجرّد شخص قادم من العصور الوسطى مع ربطة عنق. هکذا یستطیع إسلام «حزب العدالة والتنمیة» أن یرتکب کل الموبقات من دون أن یحاسبه أحد على الأقل حتى الآن. لکن اللعبة باتت مکشوفة منذ تفجیرات سوروتش فی 19 تموز الماضی وصولاً الى ذروة الانکشاف فی تفجیر أنقرة یوم السبت الماضی. وبمقارنة بسیطة بین الوضع فی ترکیا فی مرحلة ما قبل الانتخابات النیابیة الأخیرة فی السابع من حزیران الماضی وبین مرحلة ما بعدها، یتّضح أن ترکیا کانت تشهد منذ سنتین ونصف السنة على الأٌقل واحدة من أکثر الفترات هدوءاً واستقراراً داخلیاً تبعاً للتفاهم بین الدولة الترکیة و «حزب العمال الکردستانی». ولکن فجأة، بعد الانتخابات النیابیة، تحوّلت ترکیا خلال أقل من ثلاثة أشهر الى برکان من نار وحمام من دم وحالة من فوضى سیاسیة وأمنیة وعسکریة، وباتت أقرب لتکون أفغانستان، من أن تکون باکستان التی کانت علیه الى ما قبل الانتخابات النیابیة. فجأة بعد انتخابات حزیران الماضی، فتحت ترکیا قاعدة إینجیرلیک أمام الأمیرکیین، وفجأة اعلنت الحرب على «داعش»، وفجأة اعلنت الحرب على «حزب العمال الکردستانی»، وفجأة حصلت مجزرة سوروتش التی راح ضحیتها 32 شخصاً، ومن بعدها مجزرة انقرة الأخیرة التی قتل فیها أکثر من مئة شخص وجرح المئات. أسئلة کثیرة تطرح. لماذا انقلب الوضع فجأة من مستقر وعادی الى متوتر ودموی؟ ولماذا المستهدف فی تفجیری سوروتش وأنقرة هم الفئة نفسها أی مؤیدی ومناصری «حزب الشعوب الدیموقراطی» الکردی؟ الجواب على هذین السؤالین کفیل بفهم ما یجری الیوم فی ترکیا منذ اربعة أشهر ونیّف، وصولاً الى الأول من تشرین الثانی المقبل، موعد إجراء الانتخابات النیابیة المبکرة. لا یختلف أحد أن تحوّل الوضع من مستقر الى دموی مرتبط ارتباطاً وثیقاً برغبة الرئیس الترکی رجب طیّب أردوغان بتغییر المعادلة التی نشأت بعد فشل «حزب العدالة والتنمیة» للمرة الأولى منذ العام 2002 فی أن ینفرد بالسلطة التنفیذیة والتشریعیة. وعلى قاعدة أن «حزب العدالة والتنمیة» قد أصابه البلل، فلا خشیة من تجربة انتخابات جدیدة علها تعیده منفرداً الى الحکم، وتمکّن أردوغان من ترجمة حلمه بنظام رئاسی بقوة الأمر الواقع لا بقوة الدستور والقانون. وکان اردوغان أعلن بعد الانتخابات التشریعیة الاخیرة أن النظام الترکی تغیّر بمجرد أن انتخب هو من قبل الشعب لرئاسة الجمهوریة فی صیف 2014. وبذلک کان یکشف أردوغان أوراقه کاملة من دون تردد واستحیاء. استراتیجیة أردوغان هی أنه بمقدار کسر الصوت الکردی یمکن أن یعود منفرداً الى الحکم، ولذا کانت الحرب على الأکراد، ولیس فقط على «حزب العمال الکردستانی» أملاً بتخویف الأکراد من جهة، وطمعاً بکسب بعض الأصوات القومیة من درب «حزب الحرکة القومیة» تکون باعتقاده کافیة لیرتفع التأیید لـ»حزب العدالة والتنمیة» من 41 فی المئة الى 44 فی المئة، وهی نسبة کافیة لیحصل على 276 نائباً، أی النصف زائداً واحداً. مجزرة سوروتش أتت فی هذا الإطار. حتى الآن لم یکشف عن نتائج التحقیقات بشأن العملیة الارهابیة التی أعلن رئیس الحکومة احمد داود أوغلو أن «داعش» قام بها حتى قبل أن یبدأ التحقیق. ومن بعدها لا أحد یدری ما الذی حصل فی التحقیق. تفجیر أنقرة یأتی فی السیاق ذاته: تخویف الصوت الکردی والإمعان فی الانتقام ممن کان السبب فی کسر اردوغان فی الانتخابات الماضیة. لا یمکن لأحد ان یسأل ان هذا الأسلوب هو انتحاری لأردوغان، فالمستأثرون بالسلطة غالباً ما لا یعودون یرون ما یفعلون. تتقدم نزعات الانتقام على ما عداها، فیُعمى البصر والبصیرة على قاعدة «ومن بعدی الطوفان». ارتباک حکومة حزب العدالة والتنمیة فی التعاطی مع تفجیر أنقرة یُطلق الشبهات فی مسؤولیتها عن المجزرة. 1ـ حاولت الحکومة الترکیة التعاطی بلا مبالاة ولا مسؤولیة عندما أعلن داود اوغلو أن حکومته لیست حکومة «حزب العدالة والتنمیة»، بل هی حکومة انتخابات. کان یرید أن یتهرّب هو وحزبه من المسؤولیة. لکن الکل یعرف أن کل الوزراء فی الحکومة الانتقالیة هم إما أعضاء فی «حزب العدالة والتنمیة» أو کانوا وزراء او نواب سابقین عن الحزب او موظفین منتمین الى الحزب الحاکم. ولو افترضنا خطأ کل ذلک، فعلى الأقل، هو الحزب الذی یقود الحکومة، وله نصف الوزراء المباشرین، ولا یمکن له أن یتهرّب من المسؤولیة. 2 ـ بان الارتباک واضحاً عندما أشار داود اوغلو الى أن مرتکبی تفجیر انقرة المزدوج قد یکونون «داعش» و «حزب العمال الکردستانی». وهذا الجمع بین العدوین اللدودین لا یمکن أن ینطلی على أحد، اذ کیف یمکن لهما ان یلتقیا على تفجیر مثل هذا؟ وکیف یمکن لـ «حزب العمال الکردستانی» أن یقتل مئة من مؤیدیه کما لو أنه منظمة مافیا إجرامیة، فی حین أنه یقود نضالاً إنسانیاً للمطالبة بحقوق شعب مقهور ومهدورة حقوقه فی بلد کان یتعامل مع أکراد کما لو أنهم لیسوا بشراً؟ 3 ـ أعلن داود أوغلو أن لدى السلطات الترکیة قائمة بأسماء انتحاریین محتملین تضمّ العشرات، وقد تبیّن ان اسمَی اللذین ارتکبا الجریمة الموصوفة فی أنقرة ضمن هذه اللائحة. اکثر من ذلک فإن والد أحدهما تحدث قبل سنتین الى صحیفة «رادیکال» الترکیة عن شکواه الى السلطات الأمنیة عن أخذ «داعش» لابنه الى سوریا ولدى عودته فی إحدى المرات الى بلده آدی یمان طلب من الشرطة الترکیة أن تعتقله وتحبسه، لکن هذه السلطات استجوبته فی المخفر وأطلقت سراحه فوراً. وعندما سئل داود اوغلو فی حدیث تلفزیونی بعد تفجیر أنقرة لماذا لم تتخذ الحکومة إجراءات بحق القائمة التی تحدّث عنها، کان جوابه، الذی أثار سخریة النقابات ومنظمات المجتمع المدنی، أن ترکیا بلد قانون ولا یمکن اعتقال أحد لمجرد الشبهة، ولا یمکن التحرّک إلا إذا حدث شیء ما. بکل بساطة ولا مسؤولیة، ینتظر رئیس الحکومة الترکی ان یقتل الانتحاریون المدنیین الأبریاء لکی یتحرّک بعد فوات الأوان! 4 ـ لقد وقع التفجیر فی قلب العاصمة الترکیة، وهو الأکبر فی تاریخ ترکیا منذ إعلان الجمهوریة فی العام 1923. مع ذلک لم یتحمّل أحد المسؤولیة. لا وزیر الداخلیة استقال ولا وزیر العدل. وبعد خمسة أیام کان قائد شرطة أنقرة هو کبش الفداء الذی افتدى به المسؤولون السیاسیون أنفسهم. بل عندما سئل وزیر الداخلیة عما إذا کانت هناک ثغرات أمنیة أجاب بالنفی. ولکن قبل یومین کان أردوغان یقول إنه قد تکون هناک أخطاء حصلت ویجب التحقیق فی ذلک. وفی کلتا الحالتین هناک تناقض ومکابرة بتحمل المسؤولیة او تحمیلها للموظفین الصغار. لا أحد یُصدّق ان هناک ضعفاً استخباریاً، خصوصاً أن الأسماء کانت موجودة والحادثة فی قلب أنقرة، ووسط توتر أمنی کبیر، ومع ذلک هل یعقل ألا تکون هناک تحسّبات لعمل مثل هذا النوع؟ 5 ـ لقد بان الارتباک والتخبّط عبر منع مدعی عام الجمهوریة کل وسائل الإعلام من نشر أی معلومة مکتوبة او مرئیة او عبر وسائل التواصل الاجتماعی أو أی وسیلة أخرى حول الحادثة، بعدما تکاثرت الشبهات والاتهامات للحکومة. فلماذا کل هذا التعتیم؟ یتهم الأکراد اردوغان شخصیاً بأنه وراء العمل التفجیری فی انقرة. صحیفة «أوزغور غوندیم» التابعة لـ «حزب العمال الکردستانی» عنونت صفحتها الأولى بعد التفجیر بـ «أردوغان القاتل». أردوغان لم یعلق على الحادثة سوى بعد أربعة أیام، وکان تعلیقه أن «داعش» و «حزب العمال الکردستانی» و «قوات الحمایة الکردیة» فی سوریا، و «حزب الاتحاد الدیموقراطی السوری» بزعامة صالح مسلم هم سواء بالنسبة الى ترکیا... فکلهم إرهابیون. حمایة «داعش» أو إخراجها من دائرة الترکیز هدف أساسی لأردوغان. لا یمرّ اسم «داعش» بمفرده فی تصریحات قادة «حزب العدالة والتنمیة». لا تزال وظیفة هذا التنظیم المتشدد قائمة ما دام یخدم الهدف الأول والأخیر لأردوغان وهو إسقاط النظام فی سوریا. لکن هذا الوحش لن یتردد فی لحظة الانقلاب علیه، التی لم تحن بعد فی أن یلتهم أسیاده. التقاریر التی نشرتها الصحف الترکیة، امس الاول، کانت مرعبة فی القول إن عشرة آلاف من أصل ترکی ینتمون الیوم الى «داعش». کان الاعتقاد أنهم حوالی الخمسة آلاف. وإذا أضفنا الى هذا أن من 13 الى 15 فی المئة من قواعد «حزب العدالة والتنمیة» (أی حوالی 2 - 3 ملایین) لا ترى فی «داعش» تنظیماً إرهابیاً، فإننا أمام صورة مخیفة من بیئة رسمیة وشعبیة حاضنة للإرهاب فی ترکیا، ولا أحد یدری کیف یمکن تطهیر النسیج الاجتماعی الترکی من هذا الفیروس فی المستقبل. لقد أدّت سیاسات «حزب العدالة والتنمیة» الخاطئة والمغامرة الى إدخال ترکیا فی أتون من الدم والنار والدموع والتراجع الاقتصادی والعزلة الخارجیة، حیث بلغت الکاریکاتوریة والسخریة ذروتها فی استدعاء وزیر الخارجیة الترکی للسفیرین الروسی والأمیرکی فی أنقرة لاحتجاج على مساعدات عسکریة من بلدیهما لقوات الحمایة الکردیة فی سوریا، وفی أن ذلک یمثل تهدیداً للأمن القومی الترکی، من دون ان یتساءل وزیر الخارجیة ومَن فوقه من مسؤولین، کیف یمکن لهذا أن یکون تهدیداً للأمن القومی الترکی ولا یکون التهدید الحقیقی هو أن تفتح ترکیا حدودها ومخازن أسلحتها وأراضیها لکل صنوف الدعم بالسلاح والمقاتلین من کل انحاء العالم للمجموعات المعارضة فی سوریا؟ أولیس جدیراً بمسؤولی «حزب العدالة والتنمیة» أن یتساءلوا مع المعلق البارز الترکی سامی کوهین لماذا أصبح لترکیا کل هذا الکمّ من الأعداء؟ رغم أنه کان جزءاً من سیاسات «حزب العدالة والتنمیة» فی السابق، إلا أن الرئیس السابق عبدالله غول کانت له الجرأة فی أن یرسل برقیة تعزیة إلى صلاح الدین دیمیرطاتش، رئیس «حزب الشعوب الدیموقراطی» الکردی، عن ضحایا مجزرة انقرة. وکان لدى دیمیرطاش الشجاعة لیدعو الله فی ردّ على الرسالة أن یرضى عن غول. حتى الآن لم یعزِّ أی من مسؤولی «حزب العدالة والتنمیة» أحداً من الأکراد، لا بمجزرة سوروتش، ولا بمجزرة أنقرة. فی مناخ مثل هذا کیف یمکن لترکیا أن تغیّر سیاساتها؟ یجب انتظار انتخابات الأول من تشرین الثانی المقبل، لعل قادة «حزب العدالة والتنمیة» یعقلون بعض الشیء، ویقبلون بحکومة ائتلافیة تُخرج ترکیا من جحیمها الحالی، وهذا لن یحصل إلا إذا وجّه الناخب الترکی رسالة قویة الى «حزب العدالة والتنمیة» أنه لا یستطیع التحکم بالبلاد بمفرده لأن النتیجة أمامه ستکون المزید من القتل والتفجیرات والدماء والدموع. الاستطلاعات لا تعطی «حزب العدالة والتنمیة» ما یریده. وإذا لم تکن الانتخابات وسیلة لتغییر السیاسات فلیس على ترکیا سوى أن تنتظر المزید من الفراغ السیاسی والعبث الدموی والمزید من تحوّلها الى أفغانستان أخرى، لیس بسبب تدخل الدول الخارجیة التی لا تزال تحتفظ برباطة جأش تجاه أنقرة، بل بسبب السیاسات الرعناء لـ «حزب العدالة والتنمیة»، والرغبة الجنونیة فی أن یستمرّ قادته، ما دام الرئیس بشار الاسد فی الحکم، فی إغراق سوریا فی الدم والخراب والفوضى، على ما خرج به فریدون سینیرلی اوغلو، وزیر خارجیة النظام الترکی بعد لقائه مع نظیره السعودی، لیتحوّل النظام فی ترکیا، ومنذ سنوات، فعلاً لا قولاً الى التهدید الأکبر للاستقرار والسلم فی المنطقة، وإلى المغّذی الأول للفتن والحروب الأهلیة فی الشرق الأوسط وصولاً إلى ترکیا نفسها. (السفیر)
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,462 |
||