التکفیر.. مناشئ ودوافع (3) | ||
التکفیر.. مناشئ ودوافع (3) الشیخ حسین الخشن عقم التفکیر وفوضى التکفیر السبب الثانی: النظرة السطحیة کان الجهل على الدوام واحداً من أهم العوامل الباعثة على انتشار العداوة والبغضاء بین بنی البشر، لأنّ"الناس أعداء ما جهلوا"[1]، ولذا من الطبیعی أن یکون الجهل بتعالیم الدین وقیمه أو النظرة السطحیة إلیه، من أسباب نشوء ظاهرة التکفیر وانتشارها، وهذا ما یجعل من صفة الجهالة أو السطحیة من السمات الملازمة للجماعات التکفیریة، کما نرى ذلک جلیّاً لدى فرقة الخوارج التی کفّرت معظم المسلمین، من مرتکبی المعصیة الکبیرة وکلّ مَنْ لم یقل بمقالتها، فقد عُرِفَ عنهم الجهل والقشریة والجمود، وطبیعی أنّه کلّما ازداد الإنسان جهلاً، ازداد تحجُّراً وتبرُّماً بالآخر، ولاسیّما عندما یکون جهله من نوع الجهل المرکب، بمعنى أن یکون جاهلاً وهو یعتقد أنّه عالم، فإنّ ذلک یحوطه بهالة من الوهم ویجعله أسیر العُجْب بالنفس، ویُخیّل إلیه امتلاک الحقیقة، وهو ما یجعله رافضاً للنصح وغیر متقبّل للنقد والرأی الآخر، قال علیّ (ع): "الجاهل لا یرتدع، وبالمواعظ لا ینتفع"[2]، وقال (ع): "الجاهل لا یعرف تقصیره ولا یقبل من النصیح له"[3]، کما أنّه کلّما أوغل الجاهل فی السیر والعمل، ازداد تخبُّطاً وبعداً عن بلوغ الصواب، قال أمیر المؤمنین (ع): "العامل بجهلٍ کالسائر على غیر طریق فلا یزیده جدّه فی السیر إلاّ بُعداً عن حاجته"[4]. وإذا اقترن الجهل بالتدیّن والزهد فسوف تکون المصیبة أعظم وأدهى، لأنّ زهده وتقاه یجعلانه أکثر تشدُّداً وأقوى تمسّکاً بآرائه، ویمنحانه "شرعیّة معیّنة" فی نظر العامّة من الناس الذین ینظرون إلى الظواهر ویغترّون بالمظاهر، وقد قالها علیّ (ع): "ما قصم ظهری إلاّ رجلان: عالم متهتّک وجاهل متنسّک"[5]، وقال (ع): "قطع ظهری رجلان من الدنیا: رجل علیم اللسان فاسق، ورجل جاهل القلب ناسک، هذا یصدّ بلسانه عن فسقه وهذا بنسکه عن جهله، فاتّقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبّدین أولئک فتنة کلّ مفتون"[6]. وقد أنشد ذلک بعضهم فقال: فساد کبیر: عالم متهتک وأکبر منه جاهل متنسک هما فتنة للعالمین عظیمة لمن بهما فی دینه یتمسّک وعلى ضوء ذلک نفهم عمق ومغزى الکلمة المرویّة عن أمیر المؤمنین (ع): "أنا فقأت عین الفتنة، ولم یکن لیجترئ علیها أحد غیری"[7]، إذ کیف یتسنّى لأحدٍ غیر علی (ع) أن یسلَّ السیف بوجه قرّاء القرآن وحفظته وأصحاب الجباه السود، التی غیّرها طول السجود لله سبحانه، عنیت بذلک الخوارج؟!
ولهذا نقول: الحذر کل الحذر من الجهلة المتنسکین، الذین ینطقون باسم الدین ویحتکرونه لأنفسهم ویتصرّفون کأنّهم أوصیاء علیه، فإنّهم یسیئون أکثر مما یحسنون، وربّما أساؤوا من حیث یریدون الإحسان والخیر، ولکنّهم على کلّ تقدیر لیسوا أهلاً لحمل رایة الدین والتحدّث باسمه ولا یعوّل علیهم فی نشره ونصرته والدفاع عنه، لأنّه وکما ورد من الحدیث عن رسول الله (ص): "لا یقوم بدین الله إلاّ مَنْ حاطه من جمیع جوانبه"[8]، بل إنّ خطر هؤلاء على الدین أشدّ من خطر الذین ینصبون له العداء أو یرفضون تعالیمه وتشریعاته بشکلٍ علنیّ وصریح، وقد علّمتنا التجارب، أنّ حملات المجابهة الخارجیة للدین وموجات التنکّر له، لا تزیده إلاّ رسوخاً فی النفوس، بینما یُلاحَظ أنّ الانحراف الداخلی یشوّه صورته ویصدّع جدرانه ویقوّض بنیانه. وقد یکون الوقوف بوجه الجهلة المتنسّکین مکلفاً ویحتاج إلى تضحیة وشجاعة، ولکنّه بالتأکید لیس مستحیلاً ولا صعباً عند مَنْ یتّخذ مِن علیّ (ع) مَثَلاً أعلى له فی الحیاة. وخلاصة القول: إنّ الجهل بأبعاد الدین ومقاصده مدّعاة إلى الانغلاق، والانغلاق مدّعاة إلى الصدام والتکفیر، ومن جوامع کلمات علیّ (ع) فی هذا الشأن قوله فیما روی عنه: "لا ترى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرِّطاً"[9].
التعلّق بالقشور ومن جهة أخرى، فإنّ الجهل یجتذب الحماقة والسفاهة، قال علیّ (ع): "الحمق من ثمار الجهل"[10]، والسفاهة مفتاح التکفیر والتضلیل، فعنه (ع): "السفه مفتاح السباب"[11]، کما أنّه- أعنی الجهل- قرین التشدّد وباعثه، یقول الإمام الباقر (ع) فیما روی عنه: "إنّ الخوارج ضیّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدین أوسع من ذلک"[12]، وکلمة الجهالة تختزن معنى السفاهة ولیست هی مجرّد عدم العلم محضاً، کما هو الحال فی قوله تعالى: {قَالُواْ یَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً کَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّکُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[الأعراف: 138]، وقوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِیُوسُفَ وَأَخِیهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}[یوسف: 89] وقوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً}[الفرقان: 63]، فإنّ الجهل فی هذه الآیات وغیرها هو بمعنى الطیش والسفه أو یستبطن ذلک[13].
ومشکلة السفه الفکری الذی أُصیب به الکثیرون من أتباع الشرائع السماویة، مشکلة قدیمة ومستعصیة وبالغة الخطورة، وقد ساهمت فی تکوین فئة قشریة تعیش على السطح، وتتقن قراءة السطور، ولکنّها لا تتقن قراءة ما بین السطور، فضلاً عمّا وراءها، ولذا غدا الدین عندها یمثّل انغلاقاً على الذات، بدل أن یکون انفتاحاً على الآخر، ویمثّل قوالب وقشوراً فارغة من کل مضمون، والحدیث عن الدین عند هذه الجماعات هو حدیث عن القیود التی تکبّل الأیدی، والسیاط التی تجلد الظهور، والسیوف التی تقطع الرقاب، مع أنّ رحابة الدین وسماحته ویُسره وإنسانیّته بادیة فی کلّ تعالیمه ومفاهیمه ونصوصه ومسفرةٌ لذی عینین، إلاّ أنّ مشکلة هذه الفئة تکمن فی سبات العقل، الذی استعاذ منه الإمام علیّ (ع) عندما قال: "نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل"[14].
رویداً لا یغرّنکم ومن عجبٍ أن یصبح بعض هؤلاء السفهاء والسذّج قادةً ورموزاً دینیین یحاطون بهالة من التقدیس، ویتبرّک الناس بالسلام علیهم وملامستهم، مع أنّ أکثرهم أُناس مخادعون، یصطنعون التقى ویتظاهرون بالزهد والورع، وقد حذّر منهم ومن فتنتهم، الإمام زین العابدین (ع) فی حدیثه الرائع الذی یرویه عنه الإمام الرضا (ع):
"إذا رأیتم الرجل قد حسَّن سَمْتَه وهدیه، وتماوت فی منطقه، وتخاضع فی حرکاته، فرویداً لا یغرّنکم، فما أکثر من یعجزه تناول الدنیا ورکوب المحارم منها لضعف نیّته، ومهانته، وجُبن قلبه؛ فنصب الدین فخاً لها، فهو لا یزال یختل الناس بظاهره، فإن تمکّن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه یعفّ عن المال الحرام فرویداً لا یغرّنکم، فإنّ شهوات الخلق مختلفة، فما أکثر من ینبو عن المال الحرام وإن کثر، ویحمل نفسه على شوهاء قبیحة، فیأتی منها محرّماً، فإذا وجدتموه یعفّ عن ذلک فرویداً لا یغرّکم حتى تنظروا ما عقله، فما أکثر من ترک ذلک أجمع، ثمّ لا یرجع إلى عقل متین، فیکون ما یفسده بجهله أکثر ممّا یصلحه بعقله، فإذا وجدتم عقله متیناً، فرویداً لا یغرّکم حتى تنظروا: أمع هواه یکون على عقله، أو یکون مع عقله على هواه؟ وکیف محبّته للرئاسات الباطلة وزهده فیها؟ فإنّ فی الناس من خسر الدنیا والآخرة، یترک الدنیا للدنیا، ویرى أنّ لذّة الرئاسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنعم المباحة المحلّلة، فیترک ذلک أجمع طلباً للرئاسة الباطلة، حتى إذا قیل له: اتّقِ الله، أخذته العزّة بالإثم، فحسبه جهنّم، ولبئس المهاد، فهو یخبط خبط عشواء، یقوده أوّل باطل إلى أبعد غایات الخسارة، ویمدّه ربّه بعد طلبه، لما لا یقدر علیه فی طغیانه، فهو یُحلّ ما حرّم الله، ویحرّم ما أحلّ الله، لا یُبالی بما فات من دینه إذا سلمت له رئاسته التی قد یتّقی من أجلها، فأولئک الذین غضب الله علیهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مُهیناً، ولکنّ الرجل کلّ الرجل نِعْم الرجل هو الذی جعل هواه تبعاً لأمر الله وقواه مبذولة فی رضى الله، یرى الذلة مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ فی الباطل، ویعلم أنّ قلیل ما یحتمله من ضرّائها یؤدّیه إلى دوام النعیم فی دارٍ لا تبید ولا تنفد، وأنّ کثیر ما یلحقه من سرّائها إن اتبع هواه یؤدّیه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال، فذلکم الرجل نعم الرجل، فبه تمسّکوا، وبسنّته فاقتدوا، وإلى ربّکم به فتوسّلوا، فإنّه لا تُرَدُّ له دعوة، ولا تخیّب له طلبة"[15].
من کتاب العقل التکفیری .. قراءة فی المفهوم الاقصائی
[1]نهج البلاغة ج4 ص42. [2] تصنیف غرر الحکم ودرر الکلام ص47. [3] المصدر نفسه، ص 75. [4] المصدر السابق، ص 76. [5] المصدر السابق ص 48. [6]الخصال للصدوق ص 69. [7]نهج البلاغة ج1 ص182. [8]کنز العمال ج3 ص 84 والسیرة النبویة لابن کثیر ج2 ص168. [9] تصنیف غرر الحکم ص 75. [10]المصدر نفسه، ص 76. [11]المصدر نفسه، ص 77. [12] مَنْ لا یحضره الفقیه ج1 ص167. [13]انظر: دروس فی علم الأصول، الحلقة الثانیة للشهید الصدر ص 138. [14]نهج البلاغة ج2 ص219. [15] الاحتجاج للطبرسی ج2 ص53، بحار الأنوار ج2 ص84.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,072 |
||