التکفیرمناشئ ودوافع (2) | ||
التکفیرمناشئ ودوافع (2) تنقیةالتراثومحاصرةالتکفیریین السبب الأول: تقدیس التراث یجاهر بعض نقاد "العقل العربی" بالقول: إنّ التراث الإسلامی نفسه هو أحد المناشئ الأساسیة للتکفیر والحقل الخصب لذلک، إذ لا یعدم التکفیریون العثور على نص هنا أو هناک منسوب إلى رسول الله (ص) یتشبّثون به لتبریر أعمالهم وتصرّفاتهم التی قد نَسِمُها نحن بالعنف، لکنّها بنظرهم أعمال جهادیة تقرّبهم إلى الله زلفى، ومن هنا یطرح هؤلاء فکرة الانعتاق من هذا التراث الخبری والاکتفاء بالقرآن الکریم، لأنّ التراث المذکور مشحون بالأکاذیب التی أدخلها علیه الوضّاعون على اختلاف أهوائهم وتعدّد منطلقاتهم وأغراضهم. وإنّنا إذ نرفض فکرة انحصار مرجعیة العقیدة والتشریع بخصوص الکتاب الکریم، لأنّ الکتاب نفسه یلزمنا بالرجوع إلى السُّنّة والأخذ بها والاعتماد علیها، وذلک فی قوله تعالى: {وَمَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7] فإنّنا نعترف- فی المقابل- بأنّ السُّنة أو التراث الخَبَری لا یمکن الوثوق فیه بأجمعه، والحقیقة أنّ المشکلة لا تکمن فی التراث نفسه، بل فی تعاملنا معه ونظرتنا التقدیسیّة له، فتراثنا الإسلامی رغم اعتزازنا به، ورغم أنّه أنقى إرث إنسانی ورثته أمة من الأمم، لکن مع ذلک، فإنّ فیه الغث إلى جانب السمین، والسقیم بجوار الصحیح، والمبین والمحکم إلى جانب المجمل والمضطرب.. ومن هنا انبثقت الحاجة إلى غربلته ونقده وتصفیته، وعملیة الغربلة هذه هی جهدنا نحن، بل هی جزء من جهادنا ومسؤولیتنا إزاءه، لأنّ التراث فی نفسه صامت لا یفصح ولا یعلن لنا عن صحیحه وضعیفه، فهذه الوظیفة- أعنی الغربلة- هی من مسؤولیّة المنتمین لهذا التراث، إنّ محاکمة وغربلة التراث الصامت هی وظیفة الإنسان الناطق. عِلْما الرجال والدرایة ابتکار إسلامی وقد أدرک المسلمون منذ أمد بعید حاجة تراثهم إلى عملیة غربلة وتصفیة، والحق یقال: إنّهم أجادوا فی وضع مجموعة ضوابط ومعاییر لمحاکمة تراثهم وغربلته لجهتی السند والمتن، وابتکروا لهذه الغایة علمَی الرجال والدرایة، فعلم الرجال یهتم بنقد سند الحدیث، وعلم الدرایة یهتم بنقد المتن، وبعبارة أخرى: إنّ موضوع علم الرجال هو المحدِّث أو الراوی، وغایته التعرّف على وثاقة الرواة أو ضعفهم، بینما موضوع علم الدرایة هو الحدیث نفسه، وغایته التعرّف على وثاقة الروایة وعِللها. وإنّنا- کمسلمین- لا نخفی إعجابنا واعتزازنا بهذا الإبداع الإسلامی المتمیّز فی ابتکار هذین العِلْمین، وما بُذل فی هذا السبیل من جهود جبّارة تهدف إلى تنقیة تراثنا، بید أنّ المشکلة هی أنّ الإعجاب بجهود السلف قد أصاب الخلف بعقدة التهیّب من التجدید ومخالفة السابقین، وتحوّل ذلک إلى نزعة من التقدیس للسلف وجهودهم، ممّا أصاب العقل الإسلامی بالشلل، ووقع أسیراً لما وضعه أولئک العلماء من قواعد، وأصّلوه من ضوابط، مع أنّ إنتاجهم وإبداعهم على أهمّیته یبقى جهداً أو اجتهاداً بشریاً قابلاً للتطویر والتعدیل، ولا سیّما أنّنا لا نتحدّث عن مدرسة واحدة فی التفکیر بل أمامنا تیّارات متعدّدة ومناهج مختلفة فی التعاطی مع الحدیث، فهناک منهج "أهل الحدیث" المتساهل کثیراً فی أمر الروایة، وبالمقابل هناک منهج "أهل الرأی" المتشدّد کثیراً فی الأخذ بالخبر، وهناک منهج الشیعة ومنهج المعتزلة إلى غیر ذلک.. فعلى الباحث المنصف أخذ هذه المناهج جمیعاً بعین الاعتبار، محاولاً التعرّف على أقربها للصواب، مستبعداً کلّ الدعاوى العریضة لبعض المدارس– کمدرسة أهل الحدیث- التی تقدّم نفسها على أنّها تمتلک الحقیقة المطلقة فی کلِّ ما تقوله وتتبنّاه فی الرجال والطوائف والأحادیث والأحکام، وأنّها هی دون سواها المؤهَّلة لوضع مصطلحات لکلِّ الأمة؛ إنّ هذه المزاعم بعیدة عن الصواب والواقع، ویکفیک شاهداً على ذلک أنّ أهل الحدیث أنفسهم یختلفون فی جملة من المعاییر فی نقد الأسانید والمتون، کاختلافهم فی روایة "المدلّس" و"المرسل" وتعریف العدالة وغیرها.
نقد المتون
وما یهمّنا التأکید علیه فی المقام هو أسانید الأحادیث قد خُدمت کثیراً وبُذلت فی دراستها جهود هامة وکبیرة ودوّنت لهذا الغرض آلاف الکتب المتخصّصة بمعرفة أحوال الرواة توثیقاً وتضعیفاً وضبطاً وحفظاً.. ما یجعل إمکانیة الإضافة على تلک الجهود متواضعة، ولیست ذات أهمیة کبیرة، وإن کان یمکن الحدیث عن تفعیل بعض المعاییر الغائبة فی توثیق الرواة، وأهمها محاولة اکتشاف شخصیة الراوی وذهنیته من خلال ملاحظة مجموعة روایاته وتراثه، بدل دراسته بشکل مجتزأ أو الاقتصار فی توثیقه أو تحصیل الوثاقة بروایاته اعتماداً على أقوال الرجالیین فی حقه، وقد غدا سبر وتجمیع أحادیث الراوی الواحد أمراً میسوراً فی زماننا بسبب توافر الأجهزة والبرامج الحاسوبیة (الکمبیوتریة) التی توفر الکثیر من الجهد والوقت على العلماء والباحثین.
وإنّما قلت: علینا تفعیل هذه المعاییر لاعتقادی أنّها لا تمثّل اکتشافاً جدیداً فقد تنبّه لها علماء الرجال منذ أمدٍ بعید، ولذا تراهم کثیرا ًما یغمزون من قناة بعض الرواة بأنّه "یروی المناکیر" أو "ما یعرف وینکر".
لکنّنا ومع الالتفات لأهمّیة هذه البحوث المرتبطة بالسند نحسب أنّ الأمر الأهمّ فی التعامل مع السُّنّة والتراث هو نقد المتون دون الاکتفاء بنقد الأسانید، لأنّ الکثیر من الأحادیث قد تکون صحیحة الإسناد لکنّها تشتمل على مضامین قلقة أو مضطربة لا یمکن الأخذ بها، وإذا کان السلف الصالح من علمائنا قد تطرّقوا إلى نقد المتون فی مناسبات عدیدة، بید أنَّ هذا الأمر یبقى خاضعاً للاجتهاد، فهم بذلوا جهدهم وعالجوا الأمور بما ینسجم مع ثقافتهم ووعیهم، وعلى المتأخرین أن لا یستسلموا لجهد السلف على أهمّیته، وإنّما علیهم أن یراکموا على هذا الجهد أو یتجاوزه أو یضیفوا علیه استناداً إلى وعیهم الثقافی وفهمهم لدور الدین ورسالته، ویمکننا أن نسجِّل فی هذه العجالة مجموعة من الضوابط والمصافی التی لا بدّ أن تعرض الأحادیث علیها قبل الأخذ بها:
أولاً: عرضها على القرآن الکریم، فکلّ حدیث یخالف کتاب الله فهو ردّ أو زخرف کما قال الإمام الصادق (ع)[1]، والأمر المهم هنا تحدید معنى مخالفة الکتاب، فهل یُقتصر فی ردِّ الحدیث ورفضه على مخالفته لنصّ الآیة، أو أنّ ذلک یشمل المخالفة لروح القرآن ومفاهیمه العامة کما هو الصحیح؟ ثم هل یمکن تبریر المخالفة وتوجیهها بالنسخ؟
وهل یمکن القبول بنسخ القرآن الکریم بالسنة القطعیة کما هو المشهور؟ أم یقال: إنّ دور النبی (ص) هو شرح وتفسیر الکتاب لا نسخه وإلغاء أحکامه، کما نص على ذلک قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ}[النحل: 44].
ثانیاً: عرضها على معطیات العقل القطعی، على اعتبار أنّ العقل الفطری هو مرآة صافیة لوحی الله، ولا یمکن أن یتعارض العقل الظاهری أعنی الرسول، مع الرسول الباطنی وهو العقل.
ثالثاً: عرضها على معطیات العلم، ونقصد بها الحقائق العلمیّة لا مجرّد النظریات التی لا تزال مثار جدلٍ أو التی لم تَرْقَ إلى مستوى الیقین، والمبرّر لهذا الضابط أنّ النبی (ص) ینهل من وحی الله وکلماته، فکیف لکلامه تعالى أن یتعارض مع فعله وخلقه؟
رابعاً: عرضها على الواقع، ونقصد بذلک الواقع الخارجی المحسوس، وکذا الواقع التاریخی، فإنّ بعض الروایات الصحیحة سنداً لا تنسجم مع الواقع الحسّی أو التاریخی، وقد تحدّثنا بشیءٍ من التفصیل عن هذه الضوابط فی کتابنا "الشریعة تواکب الحیاة".
إنّ إهمالنا لعملیة نقد المتون وإغفالنا للضوابط المتقدّمة أو غیرها، والاستسلام لحسن الظنّ بوثاقة الرواة، والخضوع التام لکتب الحدیث وإسباغ وصف الصحاح علیها، إنّ ذلک قد أسّس بشکل أو بآخر لمنطق التکفیر وغذّاه بالکثیر من الأحادیث التکفیریّة التی أسهمت فی تعزیز ثقافة العنف وفی تعمیق الهوة بین المسلمین وتمزیقهم شرّ ممزّق.
والنموذج الأبرز للأحادیث التکفیریة هو حدیث الفرقة الناجیة، وهو حدیث مشهور ومعروف ومرویّ من طرق الفریقَیْن- السُّنّة والشیعة– ویُعتبر المرتکز والأساس لانطلاق ما یُعرف بعلم الملل والنحل، وقد ألّف العلماء کتباً کثیرة فی شرحه وتفسیره وتحدید المقصود بالفرقة الناجیة والفرقة الهالکة، وقد قدّمنا الکلام حول هذا الحدیث فی إشارة مختصرة تارکین التفصیل فی ذلک إلى ما حقّقناه فی کتاب "هل الجنّة للمسلمین وحدهم؟".
[ من کتاب العقل التکفیری .. قراءة فی المفهوم الإقصائی ]
________________________________________ [1] انظر: وسائل الشیعة ج27 ص110، الباب 9 من أبواب صفات القاضی، الحدیث 12 و13.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 987 |
||