التکفیر مناشئ ودوافع (1) | ||
التکفیر مناشئ ودوافع (1) 1- عوامل متعدّدة ومتشابکة
إنّ ظاهرة التکفیر لم تأتِ من فراغ، ولم تنشأ اعتباطاً، بل إنّ لها أسبابها وبواعثها، وإذا وضعنا الید على هذه الأسباب والبواعث، نکون قد خطونا خطوة البدایة فی طریق العلاج والتخلّص من هذه الآفة، لأنّ المرض لا یمکن القضاء علیه أو مقاومته إلاّ بعد تشخیصه، وتشخیصه لا یتمّ إلاّ بمعرفة أسبابه وعوارضه... فما هی أسباب هذه الظاهرة أو هذه الآفة؟
رفض نظریة العامل الواحد فی تفسیرنا وتحلیلنا لظاهرة التکفیر ودراستنا لأسبابها ومنطلقاتها لا نستطیع إرجاعها إلى عاملٍ واحد، لأنّنا أمام ظاهرة دینیّة اجتماعیّة، أو ظاهرة دینیّة ذات بُعد اجتماعی، ومن الخطأ تفسیر الظواهر الاجتماعیة على أساس نظریة العامل الواحد، لأنّ ذلک مجافٍ للحقیقة والواقع، فهناک أسباب مختلفة ودوافع شتّى ومتداخلة تُساهم فی بناء الشخصیّة التکفیریّة، ویتشابک فیها العامل النفسی مع الاجتماعی مع الاقتصادی مع السیاسی مع الدینی، واجتماع هذه الأسباب ینتج شخصیات تکفیریة صدامیة.
وفی مستهلِّ الحدیث عن دوافع التکفیر ومنطلقاته أرى أنَّ من الضروری أن أشیر إلى بعض النِّقاط الأساسیّة المتّصلة بهذا الموضوع:
أولاً: على الرغم من إدراکنا لعمق ظاهرة التکفیر وامتدادها التاریخی، بحیث إنّه لم یکد یخلو منها مجتمع من المجتمعات الدینیة أو الوثنیة أو غیرها، لکن لا یسعنا الموافقة على تفسیرها على أساس فطری وجبلی، بالقول إنّ الإنسان بدافع من فطرته فإنّه یمارس التطرف والإجرام وإقصاء الأخرین، وذلک لأننا ومن موقع معرفتنا بالإنسان وبخصائص شخصیته ندرک أنَّ الإجرام لیس صفة ذاتیّة متأصّلة فیه، بحیث إنّه یُولَد مجرماً، بل إنّه یکتسب الإجرام عن وعی واختیار، صحیح أنّ لدى الإنسان نوازع ومیولاً تشدّه أو تغریه بالإجرام، لکن فی المقابل فإنَّ لدیه أیضاً ضمیراً صاحیاً یحذِّره من مغبة ذلک، ویشدّه نحو فعل الخیر، ولدیه أیضاً عقلٌ فطری یدرک بواسطته قبح الظلم والعدوان، ولذا فإذا اختار فعل الإجرام فبإرادته وسوء اختیاره، وإذا اختار طریق الاستقامة والنزاهة فبإرادته وحسن اختیاره، وهذا المعنى نؤمن به من منطلق دینی أیضاً، لأنَّ القرآن الکریم قد أکّد على حریّة الإنسان واختیاره وأنّه هو الذی یصنع التغییر. والقول بفطریّة الإجرام باطل عقلاً أیضاً، لأنّه ینافی عدل الله تعالى، إذ کیف یحاسب المجرم على ما جنته یداه إذا کان الإجرام فطریاً؟!
ثانیاً: لا شک أنّ للظروف الاجتماعیة القاسیة وما یرافقها من قهر وظلم واستبداد- وهکذا الظروف الاقتصادیة الصعبة وما یصاحبها من فقر وعوز- دوراً کبیراً فی تهیئة المناخ الأفضل والأرضیّة الملائمة للتکفیر، بما شکّل أرضاً خصبة لنموّ بذرة التکفیر، بید أنّ ذلک لا یمثِّل الصورة الکاملة، وإلاّ کیف نفسّر انتماء الکثیر من تکفیریّی زماننا- کما تُشیر الإحصاءات- إلى مجتمعات ثریّة نسبیّاً، ومنها بعض المجتمعات العربیة، على أنّ الفقر والعوز یدفعان نحو ممارسة الإجرام والعدوان، إمّا انتقاماً ممّا تعرّض له الشخص من ظلم وحیف، وإمّا بدافع تأمین لقمة العیش، وهذا لا یفسِّر حقیقة ظاهرة التکفیر والتی لا یمارس أصحابها التطرّف بدافع الانتقام والإجرام أو السرقة، بل انطلاقاً من رؤیة فکریة ترى أنّ الآخر یستحقّ الموت.
ثالثاً: ولا أرانی أغفل دور العامل السیاسیّ ومساهمته الفعّالة فی تسعیر ظاهرة التکفیر، والمتأمّل فی ظاهرة التکفیر المعاصرة وظروف تکوینها منذ الثمانینیات من القرن الماضی یدرک جلیاً أنّ العقل الاستکباری قام بدورٍ کبیر فی تشجیع هذه الظاهرة ورعایتها وتهیئة المناخات الملائمة لها ومساعدتها بکلِّ ما یلزم، وذلک لأهداف ومصالح متعدِّدة سیاسیة أو غیرها، ولم یعد خافیاً أنّ ثمة دوائر خاصة مهمّتها العمل على تهیئة مناخات التطرّف وإدارة اللعبة، وتجنّد لهذا الغرض الأموال الطائلة ووسائل الإعلام وأجهزة الاستخبارات، ولذا فمن السذاجة بمکان إغفال هذا العامل ودوره الأساس فی دراسة ظاهرة التکفیر ومعرفة سبل علاجها، بید أنّنی مع ذلک لا أستطیع إلاّ أن أرى وراء ظاهرة التکفیر سبباً أعمق شکَّل مدخلاً ملائماً استغلّه العقل الاستکباری ونفذ من خلاله إلى الساحة الإسلامیة، بعبارة أخرى: إنّه لو لم تکن ثمّة أرضیّة خصبة لیشتغل علیها المستکبرون وأعوانهم لما استطاعوا أن یزرعوا بذرة التکفیر ویرعوها ویسقوها من سمومهم، ومن واجبنا العمل على اکتشاف هذه الأرضیة والتی هی أرضیة ذات صلة بفهمنا للدین والتراث.
ولذا یهمّنی أن أُرکّز على ما یمکن اعتباره أسباباً فکریة وثقافیة لظاهرة التکفیر، لأنّها أُمّ الأسباب وأساس الداء. وفیما یلی نحاول أن نطلّ على هذه الأسباب فی مقالات لاحقة بعون الله .
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,112 |
||