أوروبا بین الإرهاب المحلی والعابر للأوطان | ||
أوروبا بین الإرهاب المحلی والعابر للأوطان
أحد الجوانب الأکثر خطورة للهجمات الأخیرة فی دول أوروبیة (فرنسا، بلجیکا، الدنمارک) أنها جاءت فی سیاق اجتماعی- سیاسی مشحون فیما یتعلق بمکان الإسلام،ووجود المسلمین فی الدیار الأوروبیة،حتی فی دول لا تقوم علی فصل واضح بین المقدس والمدنس.
وبالتالی، فالنقاش لا ینحصر بالضرورة فی ثنائیة العلمانیة - الإسلام، بل یتعداه الی مسألة العلاقة مع الآخر الدینی المسلم الذی یعدّه البعض فی أوروبا جزءا من النسیج الاجتماعی المحلی،فیما یعدّه البعض الآخر دخیلا علی المجتمعات الأوروبیة وخطرا (الأسلمة) علی أمنها المجتمعی والهویاتی. وقد اتضح هذا التعارض بقوة فی ألمانیا التی شهدت مظاهرات مناوئة للإسلام والمسلمین،ومظاهرات مضادة لها تدافع عن التسامح. لکن النقاش یبدو أکثر احتداما فی فرنسا التی تعیش فیها أغلبیة مسلمی أوروبا. ومع توالی الهجمات، من المنتظر أن یحتدم النقاش أوروبیا حول ثنائیات متعددة: متطلبات الأمن-مقتضیات الحریة،سلمیة الأنا (الأوروبی عموما)- عنف الآخر (الإسلامی تحدیدا)،الإسلام/المسلمون -العلمانیة،الإرهاب العابر للأوطان- الإرهاب المحلی، (الضالعون فی العملیات الإرهابیة الأخیرة لم یأتوا من خارج أوروبا، وإنما خرجوا من رحم مجتمعاتها).
الجدید فی هذا المشهد یکمن فی ظهور إرهاب محلی فی أوروبا ذی امتدادات عابرة للأوطان. فقد تعودت أوروبا علی إرهاب مستورد یضرب أراضیها،لکن الوضع تغیر فی السنوات الأخیرة مع الإرهاب المحلی و"الجهادیین" الأوروبیین. فهی تتعرض الآن لإرهاب محلی الصنع والأداء، کما أضحت مصدرا للإرهابیین. فالدنمارک مثلا من کبری دول الاتحاد تصدیرا للمقاتلین،مقارنة بعدد سکان البلاد. ثلاث معضلات أوروبیة: تواجه أوروبا ثلاث معضلات فیغایة من التعقید. کیف یمکن إیقاف تنقل "جهادیین" أوروبیین الی مسارح "الجهاد" فی الشرق الأوسط (شق أمنی بالأساس)؟،کیف یمکن تفادی هجمات إرهابیة جدیدة علی التراب الأوروبی (شق أمنی)؟،کیف یمکن الحیلولة دون تحول شباب أوروبیین من مجرد منحرفین الی إرهابیین (شق تربوی اجتماعی)،والشق الأمنی هو الغالب حتی الآن فی التحرکات الأوروبیة بسبب التهدید المباشر الذی تشکله الجماعات الإرهابیة. وتتفق الدول الأوروبیة عموما علی بعض الإجراءات الواجب العمل بها علی الصعیدین الوطنی والأوروبی: محاربة الدعایة الجهادیة عبر الإنترنت،وتدعیم الوحدات المختصة فی محاربة الجریمة عبر الإنترنت،والتنسیق الأوروبی بتدعیم المراقبة علی حدود شنجن الأوروبیة لضمان مراقبة وتقفی تنقلات الأشخاص المشتبه بهم. ستدخل الالیة الفرنسیة لمراقبة المسافرین عبر الجو حیز التنفیذ فی سبتمبر2015،ویرتقب أن تطبق الیة مماثلة علیالمستوی الأوروبی،إن تراجع البرلمان الأوروبی عن رفضه لها،کما سنری. إذ ترید دول أوروبیة مراقبة حرکة تنقل مواطنیها المشتبه بهم لدی مغادرتهم ودخولهم التراب الأوروبی،لأن العناصر الملتحقة -بما یسمی- بالتنظیمات "الجهادیة" فی الخارجغالبا ما تسافر من بلدان أوروبیة،أخری خوفا من اعتقالها،إن هی سافرت مباشرة من بلدها. وکما سنلاحظ،فرغم الحدیث عن مسألة الاندماج ودور المنظومة التربویة فی مواجهة الفکر المتطرف،والجنوح نحو العنف والإرهاب، فإن المقاربة الأمنیة هی سیدة الموقف،بالنظر لحجم وصدی العملیات الأخیرة.
ویحتاج الأمر إلی التوقف عند ثلاثة أبعاد أساسیة لمسألة الإرهاب ومحاربته أوروبیا: التفاعل بین نماذج فرعیة للإرهاب ووضع المسلمین،وإشکالیة العلاقة بین الأنا والآخر فی سیاق یتحول فیه الآخر إلی جزء من الأنا،وأیضا المقاربة الأمنیة بمضامینها ومحاذیرها.
نماذج متقاطعة للإرهاب:
تواجه أوروبا التفاعل بین ثلاثة نماذج للإرهاب، تتداخل فی تداعیاتها الأمنیة،والسیاسیة - الاجتماعیة. یکمن النموذج الأول فی اختطاف واحتجاز مواطنین أوروبیین، فرنسیین بالخصوص فی منطقة الساحل،وحتی فی المشرق (سوریا والیمن)،بالنظر للتدخل والوجود العسکری للفرنسیین فی هذه المنطقة. لکن رغم ما یمثله من ضغط علی الحکومات،فإن اختطاف - احتجاز الرهائن مسألة یمکن إدارتها سیاسیا،نظرا لبعد مکان الجریمة عن أوروبا.
أما النموذج الثانی،فیتمثل فی التحاق أوروبیین من أصول عربیة-إسلامیة،أو من معتنقین للإسلام حدیثا بالتنظیمات "الجهادیة" فی سوریا وخارجها،لاسیما داعش، وما لذلک من تهدید مباشر للأمن الأوربی: مخاطر تنفیذ عائدین من مسارح "الجهاد" هجمات،کما حدث فی بلجیکا وفرنسا. ویطرح هذا "الجهاد" الأوروبی المصدر مشاکل عدة للدول الأوروبیة،أولاها أن بعض هذه الدول التی تحارب الإرهاب شرقا (الانخراط فی الائتلاف الدولی ضد داعش)،وجنوبا (فی دول الساحل)، "تصدر" فی الوقت نفسه مقاتلین یدعمون صفوف تنظیمات إرهابیة تحاربها قواتها المسلحة. ثانیتها: عودة بعضهم الی الدول الأوروبیة بما یهدد أمنها،خاصة أن هؤلاء تلقوا تدریبا عسکریا فی مسارح "الجهاد" التی مروا بها، وبالتالی الهجمات التی قد ینفذونها ستکون محکمة (من حیث الأداء والتنفیذ)،ومضرة للغایة من حیث الخسائر البشریة. ثالثتها: تخوف الدول الأوروبیة من مشارکة هؤلاء وبفعالیة -بحکم تجربتهم- فی تجنید شباب آخرین للقتال فی الخارج،أو لتکوین خلایا "جهادیة" مدربة لتنفیذ عملیات علی التراب الأوروبی. رابعتها وأخیرا: وجود هذه الظاهرة بحد ذاتها، أی تجنید أوروبیین للقتال فی صفوف تنظیمات إرهابیة فی الخارج، دلالة علی اختراق اجتماعی،وحتی أمنی: وجود خلایا تجنیدیة تعمل فی الخفاء،سواء عن بعد (عبر الإنترنت،وشبکات التواصل الاجتماعی) أو عبر اللقاء المباشر.
أما النموذج الثالث والأخیر،فیکمن فی ظهور الإرهاب المحلی، أی انخراط مواطنین أوروبیین، من أصول عربیة - إسلامیة،أو معتنقین حدیثی العهد بالإسلام،فی تنظیمات جهادیة، وتنفیذ عملیات ضد بلدانهم. ففی السابق،کانت العناصر الإرهابیة تأتی بالأساس من خارج أوروبا (إرهاب مستورد)،لکن ظاهرة الإرهاب المحلی استفحلت أخیرا، مما یجعل من الصعوبة بمکان محاربتها. فالأجهزة تتعامل مع مواطنین أوروبیین،وفی إطار دولة القانون، ومن ثم فمن الصعب مراقبتهم،وتقفی تحرکاتهم بشکل محکم. لذا،من المتوقع أن توضع تشریعات جدیدة لتوسیع صلاحیات الأجهزة الأمنیة. وأمام استفحال ظاهرة المقاتلین الأوروبیین فی الخارج، فإن الأجهزة الأمنیة تتحرک علی ثلاث جبهات لمحاولة التصدی لهذه الظاهرة واحتوائها: مراقبة المشتبه بهم کإجراء وقائی لتجنب سفرهم الی الخارج،ومحاولة تتبع تحرکات المقاتلین الموجودین حالیا فی مختلف بؤر التوتر فی المشرق،وربما فی الساحل،ومراقبة ورصد تحرکات العائدین من مسارح "الجهاد" محاولة لمنعهم من تنفیذ عملیات إرهابیة علی التراب الأوروبی.
تمخض عن التفاعل بین هذه النماذج الفرعیة الثلاثة للإرهاب ظاهرة جدیدة،هی: الإرهاب الفردی المعزول. جرت العادة علی أن تکون الأعمال الإرهابیة نتیجة انتماء أفراد الی خلیة أو تنظیم معین یجندهم ویغذیهم بالفکر الجهادی،ویزودهم بالدعم الضروری لتنفیذ عملیات خطط لها التنظیم،بعیدا عن التراب الأوروبی،لکن ینفذها بوساطة موفدین أو محلیین. وهذا النوع من الإرهاب تعودت أجهزة الشرطة والمخابرات علی التعامل معه لإمکانیة تحدید مسئولیة وهویة الضالعین فی العملیات بفضل "هرمیة" الخلیة،وتخصص کل واحد من أفرادها (تخطیط،دعم لوجیستی، تنفیذ...). إلا أن نمط العمل عرف تطورا فی الآونة الأخیرة من حیث الأداء والنوعیة،کما یتضح من عملیات بلجیکا،قبل وبعد الاعتداءات الأخیرة فی فرنسا (قبل عملیة باریس) والدنمارک: قیام أفراد بعملیات،دون أن یکون وراءهم تنظیم محدد یدعمهم، بمعنی أن التوافق - الاقتناع الأیدیولوجی، بمنطق تنظیم ما ینشط علی آلاف الأمیال من أوروبا، یکفی لتنفیذ عملیات إرهابیة.
المسلمون بین المطرقة والسندان:
هناک رافدان یغذیان معاداة المسلمین والعرب فی أوروبا. یتمثل الرافد الأول فی أیدیولوجیة الیمین المتطرف التی کانت من فعل أقلیة،لکنها انتشرت خلال العقدین الأخیرین فی أوساط سیاسیة واجتماعیة حدیثة العهد بالتوجهات المتطرفة المعادیة للإسلام، وفی تخوف من الإسلام،خاصة مع ولوجه الفضاء العام فی العقود الأخیرة. أما الرافد الأخیر،فیکمن فی أیدیولوجیة وسلوک الجماعات الإسلامیة المغالیة من جهة،والإرهابیة من جهة أخری،والتی تغذی هذا الجو المشحون بأقوالها وسلوکاتها،وفی حال الجماعات الإرهابیة بأعمالها الإجرامیة،إسهاما بدورها فی انخفاض سقف التسامح فی المجتمعات الأوروبیة. هکذا،أصبحت الکراهیة المتبادلة بین القطبین المتطرفین، الأوروبی والإسلامی، وقودا للإقصاء المتبادل، فضلا عن الامتدادات العابرة للأوطان،والتداعیات الناجمة عن أعمال الجماعات الإرهابیة،وبعض سیاسات القوی الکبری الغربیة فی أجزاء من العالم الإسلامی.
ومن ثم،یجد المسلمون أنفسهم بین مطرقة القوی الیمینیة المتطرفة وغیر المتطرفة المعادیة لهم،وسندان الجماعات الإسلامیة المتطرفة والإرهابیة. فالفئة الأولی لا تعدّهم فی أحسن الأحوال أوروبیین بما فیه الکفایة،وفی أسوأ الأحوال جسما دخیلا علی النسیج الاجتماعی الأوروبی برافده الدینی والحضاری الیهودی - المسیحی، بل وجماعة متطرفة ترید فرض معتقداتها الدینیة،وتغییر هویة المجتمعات الأوروبیة. أما الفئة الأخیرة،فتری أنهم لیسوا مسلمین بما فیه الکفایة لتعرضهم لعوامل التعریة الحضاریة،والدینیة،والهویاتیة بسبب اندماجهم فی المجتمعات الأوروبیة، منصبة نفسها ولیا علیهم لإعادتهم الی "الطریق المستقیم"،ساعیة لدق إسفین بینهم وبین المجتمعات الأوروبیة التی هم جزء منها. وهنا بیت القصید بالنسبة للجماعات الإسلامیة الإرهابیة المعادیة للغرب عموما. فباستهدافها رموز حریة التعبیر،أو نمط العیش الغربی باسم الإسلام، تمنح حجة قویة للمعادین للمسلمین. وبالتالی،لم یعد الیمین المتطرف الأوروبی بحاجة الی برامج دعائیة وإقناعیة لتعبئة الأوروبیین، فهناک من ینوب عنه وباسم الإسلام. والحقیقة أن التطرفین الإسلامی والأوروبی (الیمین المتطرف) یغذی ویتغذی کل واحد منهما من خطاب وسلوک الآخر، ولهما مصلحة متبادلة فی تغذیة الاحتقان السیاسی والاجتماعی. والمشکلة أن اقتناعات الیمین المتطرف بدأت تلقی مزیدا من التقبل فی أوساط واسعة من المجتمعات الأوروبیة.
التحرک الأوروبی لمکافحة الإرهاب:
أقرت دول الاتحاد الأوروبی، منتصف فبرایر2015،خطة أمنیة لمحاربة الإرهاب،تضمنت عدة تدابیر لم یفصح عنها کلها، لکنها تخص بالأساس العناصر الآتیة: تدعیم التعاون الاستخباراتی بین الدول الأوروبیة،تبادل المعلومات مع دول الشرق الأوسط حول المقاتلین الأجانب،تدعیم مراقبة الحدود الخارجیة للاتحاد الأوروبی،تعدیل بعض قواعد شنجن،حتی تتسنی المراقبة المنهجیة لکل المسافرین القادمین أو المغادرین لتراب دول الاتحاد الأوروبی المنخرطة فی نظام شنجن (22من أصل28دولة عضو فی الاتحاد الأوروبی،تضاف الیها أربع دول مشارکة غیر أعضاء فی الاتحاد،هی أیسلندا، والنرویج، وسویسرا، ولیختنشتاین)،التفتیش العشوائی فی الأراضی الأوروبیة،التصدی للمخاطر الناجمة عن عودة المقاتلین الأوروبیین من مسارح "الجهاد" فی الخارج، مراقبة هؤلاء ورصد تحرکاتهم باستمرار،منح صلاحیات جدیدة لأجهزة الأمن لمراقبة المشتبه بهم،والقیام بإجراءات استباقیة ضد أشخاص یحتمل أن یقوموا بأعمال إرهابیة،تشدید الخناق علی الشبکات "الجهادیة" بمنح المزید من الوسائل القانونیة والمالیة لأجهزة الشرطة والمخابرات،إنشاء سجل أوروبی لبیانات المسافرین جوا لتعقب تنقلات المشتبه بهم،ولتقفی حرکة "الجهادیین" أو المشتبه بهم،ومراقبة مجمل حرکة الخروج والدخول (والعبور) الی التراب الأوروبی جوا. ویعد هذا الإجراء تدارکا أیضا للفراغالموجود فی نظام شنجن الأوروبی،وتشدید الرقابة علی الإنترنت وشبکات التواصل الاجتماعی لمحاربة الفکر "الجهادی"،وشبکات التجنید عبر الإنترنت،لاسیما وسائل الاتصال المجانی،وشبکات التواصل الاجتماعی لتحدید وغلق المواقع "الجهادیة" (تکلیف الشرطة الجنائیة الأوروبیة -یوروبول- بهذه المهمة)، بالتعاون مع کبریات شرکات الإنترنت. وتعمل الدول الأوروبیة علی إقناع شرکات الإنترنت الأمریکیة العملاقة للتعاون معها للتصدی للشبکات والمضامین "الجهادیة" فی الإنترنت،ومواجهة الدعایة الإعلامیة للتنظیمات "الجهادیة" بدعایة رسمیة لتجنب تجنید شباب أوروبیین،وتجفیف مصادر تمویل الإرهاب.
وفضلا عن هذه الخطة،تؤکد الدول الأوروبیة مسائل تراها أساسیة: ضرورة التمییز بین المسلمین والإرهابیین،ورفض أی اختزال لمحاربة الإرهاب فی صراع بین الإسلام والغرب،ومطالبة ممثلی المسلمین بالتندید بالإرهاب وإدانته،والعمل علی توعیة المسلمین فی الدیار الأوروبیة ضد مخاطر الإرهاب،والتعاون مع الدول العربیة الإسلامیة،لیس فقط فی مجال الاستخبارات وتقاسم المعلومات،بل وأیضا فی مجال الدعایة بتعبئة الإسلام الرسمی للرد علی دعایة التنظیمات "الجهادیة".
جدلیة الأمن والحریة:
سمحت فرنسا،منذ2006،تحت شروط معینة، للشرطة وللجمارک بالحصول علی بیانات شخصیة للمسافرین من شرکات الطیران المدنی فی إطار ما یعرف بقاعدة بیانات المسافرین جوا، لدی حجز وشراء تذکرة السفر لکل مغادر لفرنسا،أو قادم الیها. وتسهر اللجنة الوطنیة للإعلام الالی والحریات علی احترام قاعدة البیانات هذه مع بعض الضمانات، لاسیما فیما یتعلق بالحیاة الشخصیة. فمثلا،من هذه البیانات: جمع المعلومات التی تعدّحساسة وممنوعة،مثل الانتماء الدینی أو العرقی للمسافر، أو حتی معطیات حول طبیعة الوجبة الغذائیة (حلال مثلا) التی یطلبها المسافر،ویحتفظ بهذه المعطیات لمدة خمس سنوات. ویتم حجبها بعد سنتین من جمعها. وبعد هجمات باریس،فی ینایر الماضی،تقرر إنشاء قاعدة بیانات مرکزیة فی سبتمبر2015 (تحویل المنظومة المعلوماتیة القائمة الی منظومة متکاملة) لتسهیل جمع ومعالجة المعطیات التی یحتفظ بها (یتم تخزینها فی الحاسوب المرکزی) لمدة أقصاها خمس سنوات. لا تعنی قاعدة البیانات الفرنسیة إلا بالرحلات المغادرة أو القادمة الی فرنسا. وبما أن الاتحاد الأوروبی یقوم علی حریة تنقل الأشخاص، فإن العمل بقاعدة بیانات وطنیة لن یجدی نفعا،لأنه بإمکان أی شخص أن یغادر التراب الأوروبی،أو أن یصل الیه من المطار الذی یختاره. فالفرنسی الذی یغادر التراب الأوروبی من مطار مدرید،بعد أن وصل الیه علی متن سیارة من إحدی المدن الفرنسیة باتجاه اسطنبول مثلا،لا یخضع لمراقبة هذا النظام. وفی ظلغیاب الیة من هذا النوع علی المستوی الأوروبی، تکتفی الدول الأوروبیة بالتعامل فیما بینها وفق برتوکولات متفق علیها علی الصعید الثنائی. ولتدارک الأمر،تطالب فرنسا بتعمیم نظام المراقبة هذا علی المستوی الأوروبی. وقد اتفق وزراء داخلیة الاتحاد علی إنشاء قاعدة بیانات أوروبیة تسمح بمراقبة المقاتلین الأوروبیین المتجهین نحو مسارح "الجهاد"،والعائدین منها. وبالفعل،کان موضوع تزوید أوروبا بالیة مرکزیة لجمع وتبادل البیانات الشخصیة للمسافرین،دعما لإجراءات محاربة الإرهاب الوطنیة،وللتنسیق والتعاون علی الصعید الأوروبی، محل نقاش فی الاجتماع الذی ضم وزراء الداخلیة الأوروبیین فی باریس مباشرة،عقب الهجمات التی عرفتها العاصمة الفرنسیة.
هذه الالیة لیست أمرا جدیدا بالنسبة للأوربیین، فقد سبق للمفوضیة الأوروبیة أن أعدت نصا قانونیا بهذا الخصوص فی2011،لکن البرلمان الأوروبی رفضه لقلة الضمانات التی یحتویها فی مجال احترام الحریات الفردیة،عادًّا أنه یمس الحیاة الشخصیة للمسافرین الأبریاء. وتعمل فرنسا، منذ هجمات7ینایر فی باریس، علی إقناع شرکائها الأوروبیین بضرورة تفعیل مشروع قاعدة البیانات الأوروبیة،کما تسعی ودول أوروبیة أخری للضغط علی البرلمان الأوروبی للعدول عن موقفه. وللرد علی تخوف هذا الأخیر من مخاطر هذا النظام علی الحریات الفردیة،والحیاة الشخصیة للمواطنین الأوروبیین، تقول المفوضیة الأوروبیة إن الدول التی اعتمدت مثل هذا النظام علی المستوی الوطنی حققت نجاحات فی مجال محاربة الجریمة والإرهاب بتجنبها بعض العملیات. ویتمثل النظام المرتقب فی إنشاء قاعدة بیانات أوروبیة تربط النظم المعلوماتیة الوطنیة بعضها بعضا بإنشاء نظام أوروبی مرکزی،یمکن لأی بلد عضو فی الاتحاد أن یستغل معطیاته فی أی وقت، خاصة أن الشبکة ستجهز بأنظمة إنذار تخص الأشخاص المشتبه بهم،والذین أدخلت معلومات خاصة بهم فی قاعدة البیانات. إلا أن البرلمان الأوروبی منقسم علی نفسه بشأن إقامة قاعدة بیانات أوروبیة للمسافرین جوا. فکتلة الحزب الشعبی الأوروبی (یمین)،وکتلة المحافظین والإصلاحیین یبدو أنهما تساندان المشروع، بینما کتل الخضر،والیسار الأوروبی،وتحالف الدیمقراطیین،واللیبرالیین من أجل أوروبا،یبدو أنها تعارضه.
الغرض من هذا النظام لیس فقط تقفی حرکة المشتبه بهم لمعرفة تحرکاتهم وتنقلاتهم وبالتالی اعتقالهم بسهولة،فی حال شک،أو کإجراء استباقی (إن سمحت التشریعات القادمة بذلک)، ولکن أیضا محاولة تحدید واکتشاف سلوکاتغیر طبیعیة،مثل شراء شابغیر متعود علی السفر تذکرة ذهاب فقط باتجاه مناطق،أو بلدان مصنفة ضمن خانة الاتجاهات الحساسة،أو التی تعرف صراعات مسلحة، أو الحجز فی آخر لحظة باتجاه هذه البلدان کمحاولة لتمویه وإرباک الأجهزة الأمنیة التی قد تراقبه، أو حجز تذکرة مع العبور عبر عدة مطارات،أو التوقف فی أکثر من بلد لحجب الرؤیة عن الوجهة النهائیة. وبهذا،یکون بإمکان الأجهزة الأمنیة منع إرهابی ینوی تفجیر طائرة من رکوبها،أو حتی إجبار هذه الأخیرة علی النزول فی مطار دولة أوروبیة لدی تحلیقها فی مجالها الجوی لاعتقال الشخص المشتبه به.
جدیر بالذکر أن الولایات المتحدة بدأت استغلال بیانات السفر الجوی عقب عملیات الحادی عشر سبتمبر،کما وضعت أیضا قائمة لممنوعین من السفر عبر الطائرات،انطلاقا أو باتجاه التراب الأمریکی. کما بدأت بریطانیا استغلال بیانات سجل مماثل منذ2008لمحاربة الإرهاب،والجریمة،والهجرة السریة. وهناک دول أخری،مثل بلجیکا،والسوید،والدنمارک،تسمح للشرطة بالحصول علی مثل هذه البیانات من شرکات الطیران المدنی.
وعموما، مع اختلافات حسب قانون کل بلد، تضم قاعدة بیانات المسافرین جوا نحو20فئة من المعطیات،تحتفظ بها شرکات الطیران فی أنظمة الحجز لدیها: الاسم واللقب، تاریخ السفر، الرحلة(رقمها، مطار الإقلاع ومطار الهبوط،العبور إن وجد)، طریقة تسدید التذکرة (نقدا، صکا بنکیا، بطاقة ائتمان)، طبیعة الأمتعة، التفضیلات الغذائیة. فی الولایات المتحدة،من الممکن أیضا تخزین معلومات تخص الأصل العرقی. وتعدّهذه المعطیات کنزا ثمینا بالنسبة لأجهزة المخابرات المختلفة،لأن جمعها لا یکلفها لا الوقت ولا المال،وهیغنیة جدا بالمعلومات، وما علیها إلا أن تقوم بعملیات تقاطعیة بین ما لدیها من معلومات (أشخاص تبحث عنهم) بتلک الواردة فی قوائم شرکات الطیران. بالنظر للقوانین الأوروبیة فی مجال الحریات الفردیة، من الصعب علی دول الاتحاد أن تسن قوانین وطنیة شبیهة بـ "الباتریوت أکت" الأمریکی. أما علی مستوی الاتحاد، فإن البرلمان الأوروبیغیر مستعد لقبول قوانین من هذا النوع. وعلیه،فمن المستبعد أن تتضمن قاعدة البیانات الأوروبیة المرتقبة بعض المعطیات الحساسیة،مثل طبیعة الانتماء العرقی، وطبیعة الوجبة الغذائیة.
ویتساءل البعض فی أوروبا عن مخاطر انتهاک حریة التعبیر بدعوی الدفاع عنها،والانزلاق نحو تسییر أمنی للمجتمع علی الطریقة الأمریکیة،بعد عملیات الحادی عشر سبتمبر. وسیحتدم النقاش عندما یعاد طرح المشروع علی البرلمان الأوروبی،لأن المدافعین عن الحریات الفردیة یتخوفون من جمع معطیات ضخمة عن المواطنین،عبر أنظمة بیانات السفر،والتنصت الإلکترونی. ورغم أن "باتریوت أکت" علی النمط الأمریکی مستبعد فی أوروبا،فإن بعض الإجراءات قد یبدو أنها مستلهمة منه،لاسیما تلک المتعلقة بمراقبة الإنترنت،وشبکات التواصل الاجتماعی،وجمع المعطیات الرقمیة.
المحصلة أن عملیات باریس وکوبنهاجن عمقت الانقسام فی المجتمعات الأوروبیة حول التعامل مع المسلمین والإسلام. فالبعض یری فیهم خطرا علی الأمن المجتمعی فی أوروبا، ویقول بضرورة وضع الجالیة المسلمة تحت المراقبة،بدعوی أن الإرهابیین خرجوا من رحمها،وأن العبادات والخطابات التقلیدیة قد تحمل فی ثنایاها التطرف فالإرهاب. بینما یری البعض الآخر أن ما یحدث هو من فعل أقلیة قلیلة جدا،ولا یمکن تحمیل الأغلبیة تبعات سلوکها، ویقول بضرورة التمییز بین المسلم والإرهابی،وأن کل مسلم متطرف لیس بالضرورة إرهابیا. أما المسلمون، فی أغلبیتهم الساحقة، فهم فی وضع لا یحسدون علیه، فدینهم یوظف لضربهم،ولخدمة مآرب لا ناقة ولا جمل لهم فیها، وهم مطالبون بالتندید بالإرهاب. أما حینما یتعرض مسلمون للإرهاب،فإن ازدواجیة المعاییر هی القاعدة السائدة فی الغالب، کما اتضح أخیرا من المعالجة الإعلامیة المزدوجة للعمل الإرهابی الذی استهدف مسلمین فی شابل هیل (أمریکا)،والعمل الإرهابی الذی استهدفغیر مسلمین فی کوبنهاجن. لکن یجب الاعتراف أیضا بأن الدول والشعوب العربیة الإسلامیة لم تحرک ساکنا،ولم تندد بقوة،ولم تتظاهر تضامنا مع ضحایا شابل هیل. وهذا لم یحدث،ولن یحدث فی هذه الدول،لأن هذه الأخیرة تقمع مواطنیها فی أوطانهم،ولا یمکنها أن تدافع عنهم خارجها. تعریف الکاتب: أستاذ محاضر، جامعة باریس 8، فرنسا مجلة السیاسة الدولیة | ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,120 |
||