ظاهرة التکفیر وخطرها على تکامل الإنسان (1) | ||
ظاهرة التکفیر وخطرها على تکامل الإنسان (1) لبنان حسین الزین تُعدّ ظاهرة التکفیر من أشدّ الظواهر خطراً على تکامل الفرد والمجتمع الإنسانیین؛ بفعل طمسها لمعالم دستور التکامل؛ وهو الدین: {کَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَمُنْذِرِینَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتَابَ بِالْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فِیمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِیهِ إِلَّا الَّذِینَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ بَغْیًا بَیْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِینَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ یَهْدِی مَنْ یَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِیمٍ}[1]، ووأدها لبیئة التکامل؛ وهی الاختیار الإنسانی: {لَا إِکْرَاهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَیُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ}[2]، وإهلاکها لبذرة التکامل؛ وهو الإنسان: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِی الْأَرْضِ لِیُفْسِدَ فِیهَا وَیُهْلِکَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا یُحِبُّ الْفَسَادَ}[3]. نعم، إنّ هذه الظاهرة تشکّل خطراً على الدین؛ لأنّها ترید أن تقدِّم ما یفهمه أربابها ورهطها عن الدین، وما تستسیغه أهوائهم المُضِلَّة، وما یرتضیه جهلهم وتعنّتهم وحقدهم... لا ما هو علیه الدین من النور والهدایة والرحمة بالإنسان: {وَیَوْمَ نَبْعَثُ فِی کُلِّ أُمَّةٍ شَهِیدًا عَلَیْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِکَ شَهِیدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَیْکَ الْکِتَابَ تِبْیَانًا لِکُلِّ شَیْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِینَ}[4]. وتشکّل هذه الظاهرة خطراً على الاختیار الإنسانی؛ لأنّها ترید تسییر الإنسان عبداً لأربابها ورهطها من دون الله، فتغری بعض البسطاء بشعارات حقّة مشوبة بالباطل والضلال؛ لتصیّرهم من الأخسرین أعمالاً: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُکُمْ بِالْأَخْسَرِینَ أَعْمَالًا * الَّذِینَ ضَلَّ سَعْیُهُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً}[5]؛ لکنّها لا تخفى على من عَرَّض وعاء فطرته لنور الهدایة الربانیّة: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَدًا رَابِیًا وَمِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْیَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ کَذَلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا یَنْفَعُ النَّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الْأَرْضِ کَذَلِکَ یَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}[6]. وتشکِّل -بدورها- خطراً على حیاة الإنسان؛ لأنّ منطق أربابها ورهطها العنف والإرهاب والقتل لکلّ من یخالفها فی فکرها وحرکتها وسلوکها: {قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَکُمْ إِنَّ هَذَا لَمَکْرٌ مَکَرْتُمُوهُ فِی الْمَدِینَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَیْدِیَکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّکُمْ أَجْمَعِینَ}[7]. وأمام هذا الخطر المهول الذی یتهدّد الإنسان، لا بدّ من مواجهة حکیمة تنطلق من فهم هذه الظاهرة وظروف نشأتها وبیئتها الحاضنة، وتکشف عن مخاطرها وآثارها الهدّامة، وتحاول تسییل علاجات ناجعة تحول دون تفشّیها؛ تمهیداً لاقتلاع جذورها من المجتمع. 1. مفهوم الکفر فی الإسلام: وردت فی القرآن الکریم والسنّة الشریفة ضوابط وحدود للدخول فی الکفر والخروج عن ربقة الإیمان والإسلام: قال تعالى: {یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْکِتَابِ الَّذِی نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْکِتَابِ الَّذِی أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ یَکْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِکَتِهِ وَکُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِیداً}[8]. عن أبی عمرو الزبیری، عن الإمام الصادق علیه السلام قال: قلت له علیه السلام: أخبرنی عن وجوه الکفر فی کتاب الله -عزّ وجلّ-، قال علیه السلام: الکفر فی کتاب الله على خمسة أوجه: فمنها: کفر الجحود؛ والجحود على وجهین، والکفر بترک ما أمر الله، وکفر البراءة، وکفر النعم. فأمّا کفر الجحود؛ فهو الجحود بالربوبیة؛ وهو قول من یقول: لا ربّ، ولا جنّة، ولا نار؛ وهو قول صنفین من الزنادقة، یقال لهم: الدهریة؛ وهم الذین یقولون: {... وَمَا یُهْلِکُنَا إِلَّا الدَّهْرُ...}[9]؛ وهو دین وضعوه لأنفسهم بالاستحسان على غیر تثبّت منهم، ولا تحقیق لشیء ممّا یقولون، قال الله -عزّ وجلّ-: {... إِنْ هُمْ إِلَّا یَظُنُّونَ}[10] أنّ ذلک کما یقولون، وقال: {إِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا یُؤْمِنُونَ}[11]؛ یعنی بتوحید الله تعالى؛ فهذا أحد وجوه الکفر. وأمّا الوجه الآخر من الجحود على معرفة؛ وهو: أن یجحد الجاحد وهو یعلم أنّه حقّ، قد استقرّ عنده، وقد قال الله -عزّ وجلّ-: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...}[12]، وقال الله -عزّ وجلّ-: {... وَکَانُوا مِنْ قَبْلُ یَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِینَ کَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا کَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْکَافِرِینَ}[13]؛ فهذا تفسیر وجهی الجحود. والوجه الثالث من الکفر: کفر النعم؛ وذلک قوله تعالى یحکی قول سلیمان علیه السلام: {... هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّی لِیَبْلُوَنِی أَأَشْکُرُ أَمْ أَکْفُرُ وَمَنْ شَکَرَ فَإِنَّمَا یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ رَبِّی غَنِیٌّ کَرِیمٌ}[14]، وقال: {... لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ وَلَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدٌ}[15]، وقال: {فَاذْکُرُونِی أَذْکُرْکُمْ وَاشْکُرُوا لِی وَلَا تَکْفُرُونِ}[16]. والوجه الرابع من الکفر: ترک ما أمر الله عزّ وجلّ به؛ وهو قول الله -عزّ وجلّ-: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِیثَاقَکُمْ لَا تَسْفِکُونَ دِمَاءَکُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَکُمْ مِنْ دِیَارِکُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَکُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِیقًا مِنْکُمْ مِنْ دِیَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَیْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ یَأْتُوکُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَیْکُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْکِتَابِ وَتَکْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ یَفْعَلُ ذَلِکَ مِنْکُمْ...}[17]؛ فکفرهم بترک ما أمر الله عزّ وجلّ به، ونسبهم إلى الایمان ولم یقبله منهم ولم ینفعهم عنده؛ فقال: {... فَمَا جَزَاءُ مَنْ یَفْعَلُ ذَلِکَ مِنْکُمْ إِلَّا خِزْیٌ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَیَوْمَ الْقِیَامَةِ یُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ...} [18]. والوجه الخامس من الکفر: کفر البراءة؛ وذلک قوله عزّ وجلّ یحکی قول إبراهیم علیه السلام: {... کَفَرْنَا بِکُمْ وَبَدَا بَیْنَنَا وَبَیْنَکُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ...}[19]؛ یعنی تبرأنا منکم، وقال یذکر إبلیس وتبرئته من أولیائه من الإنس یوم القیامة: {... إِنِّی کَفَرْتُ بِمَا أَشْرَکْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ...}[20]، وقال: {... إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَیْنِکُمْ فِی الْحَیَاةِ الدُّنْیَا ثُمَّ یَوْمَ الْقِیَامَةِ یَکْفُرُ بَعْضُکُمْ بِبَعْضٍ وَیَلْعَنُ بَعْضُکُمْ بَعْضًا...}[21]؛ یعنی یتبرّء بعضکم من بعض[22]. وعن الإمام الباقر علیه السلام: کلّ شیء یجرّه الإنکار والجحود فهو الکفر[23]. وعن الإمام الصادق علیه السلام: معنى الکفر: کلّ معصیة عُصِیَ الله بها؛ بجهة الجحد والإنکار والاستخفاف والتهاون فی کلّ ما دقّ وجلّ، وفاعله کافر...[24]. وعنه علیه السلام -أیضاً-: إنّ الله عزّ وجلّ فرض فرائض موجبات على العباد، فمن ترک فریضة من الموجبات فلم یعمل بها وجحدها؛ کان کافراً[25]. وعنه علیه السلام -أیضاً-، وقد سأله أبو بصیر عن الشکّ فی الله؟ قال علیه السلام: کافر یا أبا محمد، قال: فشکّ فی رسول الله؟ فقال علیه السلام: کافر، قال: ثمّ التفت إلى زرارة، فقال علیه السلام: إنّما یکفر إذا جحد[26]. وعن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل یرتکب الکبیرة من الکبائر، فیموت هل یخرجه ذلک من الإسلام؟ وإن عُذِّبَ، کان عذابه کعذاب المشرکین، أم له مدّة انقطاع؟ فقال علیه السلام: من ارتکب کبیرة من الکبائر فزعم أنّها حلال؛ أخرجه ذلک من الإسلام، وعُذِّبَ أشدّ العذاب، وإن کان معترفا أنّه أذنب، ومات علیه؛ أخرجه من الإیمان، ولم یُخرِجه من الإسلام، وکان عذابه أهون من عذاب الأوّل[27]. وبالتأمّل فی هذه الآیات والروایات یمکن الخلوص إلى: أنّ تحقّق الکفر یدور مدار الجحود والإنکار لما من شأنه الإیمان به من أصول الدین(التوحید/ النبوّة/ المعاد) وضروریّاته التی لا یجتمع الإنکار بها مع التسلیم بأصوله. 2. ظاهرة التکفیر: جذورها التاریخیة والسیاسیة والعقدیة: ضربت ظاهرة التکفیر بجذورها فی المجتمع الإسلامی منذ القِدَم، وقد حذّر الرسول الأکرم صلّى الله علیه وآله من آثارها الهدّامة وعواقبها الوخیمة على الدین والحیاة فی أکثر من مناسبة وموقف: روی أنّ النبی صلّى الله علیه وآله خطب فی حجّة الوداع، فقال: ألا لألفینکم ترجعون بعدی کفّاراً؛ یضرب بعضکم رقاب بعض[28]. وروی عن النبی صلّى الله علیه وآله أنّه قال: کلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه[29]. وروی أنّ عبدالله ذا الخویصرة قال للنبی صلّى الله علیه وآله لمّا قسّم غنائم حنین: اتقِ الله یا رسول الله! فرفع رأسه إلیه، فقال صلّى الله علیه وآله: ویحک ألست أحقّ أهل الأرض أن یتّقی الله أنا، ثمّ أدبر، فقال خالد: یا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقال رسول الله صلّى الله علیه وآله: فلعلّه یکون یصلّی، فقال: إنّه رُبّ مصلٍّ یقول بلسانه ما لیس فی قلبه، فقال رسول الله صلّى الله علیه وآله: إنّی لم أُومَر أن أنقِّب عن قلوب الناس، ولا أشقَّ بطونهم، ثمّ نظر إلیه رسول الله صلّى الله علیه وآله وهو مقفّ، فقال: ها إنّه سیخرج من ضئضیء هذا قوم یقرؤن القرآن، لا یجاوز حناجرهم، یمرقون من الدین؛ کما یمرق السهم من الرمیة[30]. وکان أوّل بروز لهذه الظاهرة الخطرة التی تحوّلت من مجرّد فکرٍ إلى سلوک؛ وذلک فی الحکم بالارتداد على کلّ من تخلّف عن مبایعة الخلیفة أو تریّث فی دفع الزکاة بعد رحیل النبی صلّى الله علیه وآله والأمر بقتله، والتحریض العلنی على قتل عثمان، واتّهامه بالکفر: اقتلوا نعثلاً؛ فقد کفر[31]، وفی حرکة الخوارج فی أعقاب واقعة صفین، بعد مسألة التحکیم، حیث رفضوا مبدأ التحکیم وکَفَّروا الإمام علی علیه السلام ومن سلک مسلک التحکیم؛ بحجّة أنّ التحکیم فیه تجاوز لصلاحیات الله ومنازعة له فی حکمه: {... إِنِ الْحُکْمُ إِلَّا لِلَّهِ...}[32]. والمتأمّل فی هذه الروایات النبویّة والحوادث التاریخیّة یجدها ترکّز على مشکلة عدم الوعی وسوء الفهم لأمور الدین؛ بوصفها البیئة الحاضنة للتکفیر. وهکذا تجلّت ظاهرة التکفیر فی المجتمع الإسلامی فی حقبات تاریخیة مختلفة تضعف تارة وتشتد أخرى؛ تبعاً للبیئة السیاسیة والاجتماعیة والفکریة الحاضنة ومستوى وعی الأمّة، إلى أن ظهرت الحرکة الوهابیّة فی الجزیرة العربیة فی القرن الثالث عشر الهجری؛ حیث مارست فهماً خاطئاً للدین، وتحجّراً وسذاجة فی فهمه، وإلغاءً للرأی المخالف؛ بالعنف، والإرهاب، والقتل، والتدمیر، فی ظلّ سیطرة الجهل وغیاب الوعی؛ لتعید إحیاء ظاهرة التکفیر فی المجتمع الإسلامی التی ما زلنا نتجرّع سمومها القاتلة إلى یومنا هذا. 3. الأسباب المؤدّیة لظاهرة التکفیر: یوجد أسباب ودوافع عدّة أدّت إلى نشأة ظاهرة التکفیر واشتدادها فی مجتمعنا الإسلامی، أبرزها: أ. الجهل بالدین وأحکامه، وسوء الفهم، والتسرّع بالحکم، والإفتاء بغیر علم. ب. العصبیّة العمیاء، وقلّة التورّع فی دین الله. ج. اتّباع الهوى، والسعی وراء تحقیق المصالح والمنافع الذاتیة. ج. قلّة التبصّر والوعی، والوقوع فی فخ الابتداعات والشواذات. د. اتّباع أهل الزیغ والضلال، والمبالغة فی تقلیدهم بغیر علم ولا بیّنة. هـ. ردّة فعل نفسیة واجتماعیة مقابل الأوضاع السیاسیة والاقتصادیة الجائرة. و. فقدان الثقة ببعض علماء الدین الذین شکّلوا غطاءً دینیاً لممارسات الحاکم التعسّفیّة بحقّ المسلمین؛ ما استدعى قیام فئة من المسلمین المضّطهدین بأخذ أحکامهم بأنفسهم من القرآن والسنّة من دون درایة وعلم منهم بذلک، أو قیام فئة منهم باستغلال ذلک لتحقیق مصالحهم ومنافعهم الذاتیة بفتاوى القمع والإرهاب والقتل والتدمیر. ز. التساهل مع مظاهر الکفر فی المجتمعات الإسلامیة. ح. الضغوطات والمضایقات الشدیدة التی یتعرّض لها المسلمون فی البلاد غیر الإسلامیة. ط. غیاب المرجعیّة الدینیة التی یُحتَکم إلیها عند الاختلاف. وغیرها من الأسباب التی یمکن أن تؤسِّس بیئة حاضنة للتکفیر.
4. الآثار السلبیة لظاهرة التکفیر: إنّ ظاهرة التکفیر وما یترتّب علیها من عنف وإرهاب وقتل وتدمیر داخل المجتمعات الإسلامیة تشکّل خطراً على الإنسان والدین والحیاة، فبزوال الأمن یتدهور المجتمع وتنحدر أخلاقه وقیمه الحضاریة؛ لتحلّ مکانها الفوضى وشریعة الغاب؛ فلا تستقیم قائمة للدین بعد ذلک. وهذا یؤدّی إلى خلاف ما یریده أصحاب الفکر التکفیری -حسب ما یزعمون- من نشر تعالیم الدین الحنیف وإعلاء کلمة التوحید. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِیمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِی وَبَنِیَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * ... * رَبَّنَا إِنِّی أَسْکَنْتُ مِنْ ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیْرِ ذِی زَرْعٍ عِنْدَ بَیْتِکَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِی إِلَیْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ یَشْکُرُونَ}[33]؛ فدعاء إبراهیم علیه السلام الله لیجعل هذا البیت آمناً؛ لأنّ الأمن مقدّمة للازدهار الاقتصادی، ومدعاة جذب للناس إلیه لسماع دعوة الحقّ والإذعان لنداء التوحید. فمن یرید إعلاء کلمة التوحید علیه أن یؤمِّن الأمن والأمان لا أن ینشر الخوف والرعب!! وقد شدّد الرسول الأکرم صلّى الله علیه وآله والأئمّة علیه السلام من أهل بیته على خاصّیّة الأمن والأمان؛ بوصفها نعمة إلهیة ومنحة ربّانیة عظیمة الأثر فی اذهار الحیاة وجذب الناس؛ تمهیداً لنشر تعالیم الدین الحنیف وإعلاء کلمة التوحید: عن رسول الله صلّى الله علیه وآله: لا خیر فی... الوطن إلا مع الأمن والسرور[34]. وعن الإمام الصادق علیه السلام: النعیم فی الدنیا: الأمن وصحّة الجسم، وتمام النعمة فی الآخرة دخول الجنة[35]. وعنه علیه السلام-أیضاً-: ثلاثة أشیاء یحتاج الناس طرّاً إلیها: الأمن، والعدل، والخصب[36].
[1] البقرة: 213. [2] البقرة: 256. [3] البقرة: 205. [4] النحل: 89. [5] الکهف: 103-104. [6] الرعد: 17. [7] الأعراف: 123-124. [8] النساء: 136. [9] الجاثیة: 24. [10] الجاثیة: 24. [11] البقرة: 6. [12] النمل: 14. [13] البقرة: 89. [14] النمل: 40. [15] إبراهیم: 7. [16] البقرة: 152. [17] البقرة: 84-85. [18] البقرة: 85. [19] الممتحنة: 4. [20] إبراهیم: 22. [21] العنکبوت: 25. [22] الکلینی، محمد بن یعقوب: الکافی، تصحیح وتعلیق علی أکبر الغفاری، ط5، طهران، دار الکتب الإسلامیة؛ مطبعة حیدری، 1363هـ.ش، ج2، کتاب الإیمان والکفر، باب وجوه الکفر، ح1، ص389-391. [23] الکلینی، الکافی، م.س، ج2، کتاب الإیمان والکفر، باب الکفر، ح15، ص387. [24] الحرّانی، ابن شعبة: تحف العقول عن آل الرسول صلّى الله علیه وآله، تصحیح وتعلیق علی أکبر الغفاری، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرّسین بقم المقدّسة، 1404هـ.ق/ 1363هـ.ش، ص330. [25] الکلینی، الکافی، م.س، ج2، کتاب الإیمان والکفر، باب الکفر، ح1، ص383. [26] الکلینی، الکافی، م.س، ج2، کتاب الإیمان والکفر، باب الشکّ، ح3، ص399. [27] الکلینی، الکافی، م.س، ج2، کتاب الإیمان والکفر، باب الکبائر، ح23، ص285. [28] انظر: الطوسی، محمد بن الحسن: الأمالی، تحقیق قسم الدراسات الإسلامیة فی مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، دار الثقافة، 1414هـ.ق، المجلس13، ح11، ص363؛ ابن شهر آشوب، محمد بن علی: مناقب آل أبی طالب علیه السلام، تحقیق لجنة من أساتذة النجف الأشرف، لاط، النجف الأشرف، المطبعة الحیدریة، 1376هـ.ق/ 1956م، ج3، ص20؛ ابن حنبل، أحمد: مسند أحمد، لاط، بیروت، دار صادر، لات، ج1، ص230؛ 402؛ ج2، ص85؛ 87؛ 104؛ ج3، ص477؛ ج4، ص76؛ 351؛ 358؛ 363؛ 366؛ ج5، ص37؛ 39؛ 44؛ 45؛ 49؛ 68؛ 73؛ البخاری، محمد بن اسماعیل: صحیح البخاری، لاط، لام، دار الفکر، 1401هـ.ق/ 1981م، ج1، ص38؛ ج2، ص191؛ 192؛ ج5، ص126؛ 127؛ ج6، ص236؛ ج7، ص112؛ ج8، ص16؛ 36؛ 91؛ 186. [29] انظر: ابن حنبل، مسند أحمد، م.س، ج2، ص277؛ 360؛ ج3، ص491؛ النیسابوری، مسلم: صحیح مسلم، لاط، بیروت، دار الفکر، لات، ج8، ص11؛ [30] انظر: الکوفی، محمد بن سلیمان، مناقب الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام، تحقیق محمد باقر المحمودی، ط1، قم المقدّسة، مجمع إحیاء الثقافة الإسلامیة؛ مطبعة النهضة، 1412هـ.ق، ج2، ص324؛ 326؛ 328؛ 329؛ ابن حنبل، مسند أحمد، م.س، ج3، ص4-5. [31] انظر: الطبری، ابن جریر: تاریخ الطبری، مراجعة وتصحیح وضبط نخبة من العلماء الأجلاء، لاط، بیروت، مؤسّسة الأعلمی، لات، ج3، ص477؛ الشیبانی، ابن الأثیر: الکامل فی التاریخ، لاط، بیروت، دار صادر، 1386هـ.ق/ 1966م، ج3، ص206. [32] الأنعام: 57؛ یوسف: 40، 67. [33] إبراهیم: 35-37. [34] ابن بابویه، محمد بن علی(الصدوق): من لا یحضره الفقیه، ط2، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المقدّسة، 1404هـ.ق، ج4، باب النوادر، ح5762، ص370. [35] ابن بابویه، محمد بن علی(الصدوق): معانی الأخبار، تصحیح وتعلیق علی أکبر الغفاری، لاط، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامی التابعة لجماعة المدرسین بقم المقدّسة، 1379هـ.ق/ 1338هـ.ش، باب معنى نوادر المعانی، ح87، ص408. [36] الحرّانی، تحف العقول عن آل الرسول صلّى الله علیه وآله، م.س، ص320. | ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,180 |
||