التکفیر .. ضوابط ومحاذیر | ||
التکفیر .. ضوابط ومحاذیر الشیخ حسین الخشن
فی ضوء ما تقدم من حدیث عن مراتب الکفر وأقسامه المتعددة، مما قد یلتقی بعضها مع الإسلام، وما تقدم أیضاً من حدیث عن الفارق الکبیر بین أرکان الإسلام التی یقود إنکارها کلاً أو بعضاً إلى الخروج عن الدین ولو کان الإنکار لشبهة أو غفلة، وبین الأرکان التی لا یؤدی إنکارها فی حد ذاتها إلى ذلک وهی القائمة الکبیرة من ضروریات الدین والمذهب فی الشریعة أو العقیدة، فضلاً عن غیر الضروریات، فی ضوء ذلک کله یکون لزاماً على المسلم أن یحذر الوقوع فی شَرَک التکفیر لمجرد أن یجد کلمة " الکفر" أو " الشرک " قد أطلقت فی النصوص على بعض الأشخاص أو الأعمال، فربما کان کفراً دون کفر – کما مرّ عن ابن عباس – أو کان کفراً عملیاً لا عقدیاً، کما ذکرنا سابقاً، ولا یحق له أن یبادر إلى التکفیر لمجرد أن یرى کاتباً أو باحثاً قد أنکر فرعاً فقهیاً أو عقدیاً أو ضروریاً من ضروریات الدین، فإنّ ذلک بمجرده لا یستوجب الکفر ما لم یستلزم تکذیب النبی (ص) أو إنکار رسالته.
المسارعة فی التکفیر ومما یبعث على الأسف ویثیر القلق والأسى أنّ واقعنا الإسلامی یشهد موجات من التکفیر والتکفیر المضاد وتسرعاً فی إخراج الناس عن الدین دون ضوابط أو قیود، وهکذا ابتلیت الأمة بجماعة من أنصاف المتفقهین الذین یتعجلون فی الإفتاء بارتداد من یخالفهم الرأی فی بعض المسائل العقائدیة أو حتى الفقهیة والتاریخیة، ونتیجةً لذلک فإنهم یستسهلون إهدار دمه واستحلال ماله وانتهاک حرمته، هذا مع أنّه لا یکاد یخفى على المطلع العارف بکتاب الله وسنة رسوله (ص) أنّ هناک تحذیراً بالغاً ونهیاً شدیداً عن المسارعة فی تکفیر المسلم وإخراجه عن الدین، قال تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إلیکم السلام لست مؤمناً..} (سورة النساء، آیة: 94).
وفی الحدیث عن حذیفة قال: قال رسول الله (ص): "إنّ ما أتخوّف رجل قرأ القرآن، حتى إذا رئیت بهجته علیه، وکان رِدئاً للإسلام غیّره إلى ما شاء قلت: یا نبی الله أیهما أولى بالشرک، المرمی أم الرامی؟ قال: بل الرامی"[1].
وأخرج البخاری فی صحیحه بإسناده إلى أبی ذر عنه (ص) قال: "لا یرمی رجل رجلاً بالفسوق، ولا یرمیه بالکفر إلاً ارتدّت علیه إن لم یکن صاحبه کذلک"[2].
وأخرج عنه (ص) أیضاً، قال: "أیّما رجل قال لأخیه: یا کافر، فقد باء بها أحدهما"[3]. إنّ هذه النصوص ونظائرها مما یبالغ فی التحذیر من تکفیر المسلم للمسلم الآخر لا بدّ أن تؤسس لتربیة إسلامیة تتورع عن الإقدام على تکفیر الآخر أو اتهامه بالشرک أو الضلال أو ما إلى ذلک.
مخاطر التکفیر ومما یزید الأمر حساسیة هو علمنا بأنّ للتکفیر مخاطر عدیدة ومحاذیر جمة وانعکاسات سلبیة على المکفَّر والمکفِّر معاً، الأمر الذی یستدعی التروی فی الإقدام علیه والخوض فیه، فمضافاً إلى أنّ إخراج شخص من الدین ورمیه بالکفر هو معصیة کبیرة وذنب عظیم لا یرتکبه المسلم الذی یرید الاحتیاط لدینه، فإن له مضاعفات خطیرة على الشخص المکفَّر وعائلته وذویه، لأنّه - أعنی التکفیر – یستتبع الحکم بارتداده وإهدار دمه وماله والتفریق بینه وبین زوجته، ومعاملته معاملة الکفار لجهة المیراث والزواج وغیرهما بما فی ذلک ترک الصلاة علیه بعد موته ودفنه فی مقابر المسلمین، وذلک سیؤدی إلى محاصرته وعزله نفسیاً واجتماعیاً ونبذه من قبل المسلمین وترک التعامل معه، وتزداد عزلته إذا قلنا بنجاسته وحرمة ذبائحه وترک مؤاکلته، کما علیه جماعة من فقهاء المسلمین.
ضوابط التکفیر وعلى ضوء ما سلف یکون من الملح جداً التأکید على ضرورة مراعاة جملة من الضوابط قبل الوقوع فی محذور التکفیر والحکم على أحد بالخروج عن الدین، وإلیک أهم هذه الضوابط:
1-التثبت من الکفر إنّ تکفیر المسلم أمر عظیم فی حد نفسه وخطره کبیر وضرره جسیم، کما قلنا، لذا یکون التثبت والتحقق الکامل من الکفر أمر ضروری ولازم قبل الإقدام علیه، وذلک باعتماد وسائل الإثبات القضائیة المعروفة، مع مراعاة الدقة والعنایة التامة فی التحقیق والاستماع إلى الشهود حذراً من الوقوع فیما لا یمکن تلافیه وتدارکه من القتل وإزهاق النفوس.
2- العلم بالمکفرات والضابط الثانی الذی تلزم مراعاته هو ضرورة التأکد من معرفة الشخص بأنّ ما یقوله أو یفعله أو یتبناه من اعتقاد یشکل کفرأً بالله ورسوله، مع إصراره على موقفه رغم معرفته بلوازمه، فمن أنکر وجوب الحج مثلاً رغم علمه بوجوبه بنص القرآن والسنة ملتفتاً إلى أنّ إنکاره یستلزم تکذیب الرسول والرسالة حُکِمَ بخروجه عن الإسلام، أما لو کان جاهلاً بوجوبه لکونه حدیث العهد بالإسلام أو غیر ملتفت للملازمة فلا یُحکم بکفره، نعم فیما یرتبط بالأرکان الثلاثة التی تُعرَف بأصول الدین،( التوحید، النبوة، المعاد ، على تأمل فی الأخیر) فإنّ إنکارها ولو جهلاً لا یجتمع مع الإسلام وإن کان معذوراً فی إنکاره، لعدم قیام الحجة علیه أو عدم سماع صوت الحق. 3-العمد والقصد ولا یکفی العلم بالمکفرات فی التکفیر والإخراج عن الملة، بل لا بدّ أن ینضم إلیه شرط آخر وهو العمد والقصد، فمن نطق بکلمة الکفر خطأً أو غفلة أو لاعتقاد عدم منافاتها مع الإسلام أو نحو ذلک من حالات عدم القصد، فلا یُحکم بکفره فی جمیع ذلک، قال تعالى: {... ولیس علیکم جناح فیما أخطأتم به ولکن ما تعمدت قلوبکم...} (سورة الأحزاب،آیة: 5). وفی الحدیث عن رسول الله (ص): "إنّ الله تجاوز لی عن أمتی الخطأ والنسیان"[4]. ومن هنا کان اللازم التفریق بین المقالة والقائل، فربما کانت المقالة کفراً دون أن یکون قائلها کافراً لعدم التفاته إلى لوازمها.
4- الاختیار ومن الشروط أیضاً: الاختیار فی التزام الکفر قولاً أو فعلاً، فمن اضطر أو أُکره على قول کلمة الکفر فلا یکفر بذلک، قال تعالى: {من کفر بالله من بعد إیمانه إلا من أکره وقلبه مطمئن بالإیمان ولکن من شرح بالکفر صدراً فعلیهم غضب من الله ولهم عذاب عظیم} (سورة النحل، آیة: 106) وقد نزلت هذه الآیة – کما هو معروف ومذکور فی أسباب النزول – فی عمار بن یاسر عندما عذّبه المشرکون حتى اضطروه إلى قول ما أرادوا من کلمة الکفر، وجاء بعدها إلى النبی باکیاً شاکیاً فقال له (ص): کیف تجد قلبک؟ قال: مطمئناً، فقال (ص): "إن عادوا فعد"[5] وفی حدیث الرفع المشار إلیه آنفاً: "رفع عن أمتی الخطأ ... وما استکرهوا علیه وما اضطروا إلیه".
5-إنتفاء الشبهة وثمة شرط آخر أساسی فی هذا المجال وهو ارتفاع الشبهة، فلا یسوغ الحکم بکفر أحد لصدور کلام أو فعل منه یحتمل وجهاً صحیحاً یصرفه عن الکفر، الأمر الذی یفرض أن یکون الفعل أو القول نصاً صریحاً فی الکفر أو ظاهراً فیه ظهوراً بیّناً لا لبس فیه ولا شبهة، لأنّ الحدود لا تدرأ بالشبهات کما سیأتی. ومن هنا قیل: إنّ لازم الکفر لیس کفراً ولازم المذهب لیس مذهباً إلاّ إذا کان لزومه بیّناً مع الالتفات للملازمة. وینبغی أن یعلم أنّ الشبهات الموجبة لارتفاع الحد والتوقف عن التکفیر کثیرة ولها مناشئ عدیدة وتختلف من زمان إلى لآخر ومن شخص لآخر ولا یمکن ضبطها بحدود معیَّنة.
قال العلامة ابن حجر الهیثمی: "الذی صرَّح به أئمتنا أن من تکلم بمحتملٍ للکفر لا یحکم علیه حتى یُستفسر"[6]. ونقل عن الملا علی القاری قوله: "الصواب عند الأکثرین من علماء السلف والخلف أن لا نکفِّر أهل البدع والأهواء إلاّ إذا أتوا بکفرٍ صریح لا استلزامی، لأنّ الأصح أنّ لازم المذهب لیس بمذهب، ومن ثم لا یزال المسلمون یعاملونهم معاملة المسلمین"[7].
وقال الملا علی القاری الحنفی (ق 11هـ) "ذکروا أنّ المسألة المتعلقة بالکفر إذا کان لها تسعة وتسعون احتمالاً للکفر واحتمال واحد فی نفیه، فالأولى للمفتی والقاضی أن یعمل بالاحتمال النافی، لأنً الخطأ فی إبقاء ألف کافر أهون من الخطأ فی إفناء مسلم واحد"[8].
وثمة ضابط آخر وهو الجحود سنتحدث عنه فی العنوان الآتی.
علماء الأمة یحذرون من التکفیر وانسجاماً مع النصوص المتقدمة وإدراکاً منهم لمخاطر التکفیر وآثاره المدمرة فقد حذر کبار علماء الأمة من خطورة الخوض فیه والتسرع إلیه وإلیک بعض کلماتهم فی هذا الصدد: یقول الإمام تقی الدین السبکی وهو من أعلام القرن الثامن للهجرة فی إجابة له على سؤال عن حکم تکفیر المبتدعة وأهل الأهواء: "إعلم أیها السائل أنّ کل من خاف الله عزَّ وجلَّ استعظم القول بالتکفیر لمن یقول: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، إذ التکفیر هائل عظیم الخطر، لأنّ من کفَّر شخصاً بعینه فکأنّما أخبر أنّ مصیره فی الآخرة جهنم خالداً فیها أبد الآبدین، وأنّه فی الدنیا مباح الدم والمال، لا یمکَّن من نکاح مسلمة ولا یجری علیه أحکام المسلمین لا فی حیاته ولا بعد مماته، والخطأ فی ترک ألف کافر أهون من الخطر فی سفک محجمة من دم امرؤ مسلم، وفی الحدیث: "لأن یخطئ الإمام فی العفو أحب إلیّ من أن یخطئ فی العقوبة". ویضیف: إنّ تلک المسائل التی یفتى فیها بتکفیر هؤلاء القوم فی غایة الدقة والغموض، لکثرة شبهها واختلاف قرائنها وتفاوت دواعیها، والاستقصاء فی معرفة الخطأ من سائر صنوف وجوهه، والاطلاع على دقائق التأویل وشرائطه، ومعرفة الألفاظ المحتملة للتأویل وغیر المحتملة یستدعی معرفة جمیع طرق أهل اللسان من سائر قبائل العرب فی حقائقها ومجازاتها واستعاراتها، ومعرفة دقائق التوحید وغوامضه، إلى غیر ذلک مما هو متعذر جداً على أکابر علماء عصرنا فضلاً عن غیرهم، وإذا کان الإنسان یعجز عن تحریر معتقده فی عبارة، فکیف یحرر اعتقاد غیره من عبارته؟!
فما بقی الحکم بالتکفیر إلاّ لمن صرَّح بالکفر واختاره دیناً وجحد الشهادتین وخرج عن دین الإسلام وهذا نادر وقوعه، فالأدب الوقوف عن تکفیر أهل الأهواء والبدع[9].
ویقول العلامة الشوکانی: "إعلم أنّ الحکم على رجل مسلم بخروجه عن دین الإسلام ودخوله فی دین الکفر لا ینبغی لمسلم یؤمن بالله والیوم الآخر أن یقدم علیه، إلاّ ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنّه قد ثبت فی الأحادیث الصحیحة المرویة من طریق جماعة من الصحابة أن من قال لأخیه یا کافر فقد باء بها أحدهما.."[10].
وقال الفقیه الشافعی ابن حجر الهیثمی: "ینبغی للمفتی أن یحتاط فی التکفیر ما أمکنه، لعظیم أثره وغلبة عدم قصده سیما من العوام، ولا زال أئمتنا – یقصد الشافعیة – على ذلک قدیماً وحدیثاً.."[11].
وقد سأل الفقیه عبد الحق الإمام أبا المعالی عن مسألة التکفیر فأجابه: "بإنّ إدخال کافر فی الملة وإخراج مسلم عنها عظیم فی الدین"[12].
ویقول العلامة الشیخ محمد حسین کاشف الغطاء: "والإسلام والإیمان مترادفان ویطلقان على معنى أعم یعتمد على ثلاثة أرکان: التوحید والنبوة والمعاد، فلو أنکر الرجل واحداً منها فلیس بمسلم ولا مؤمن، وإذا دان بتوحید الله ونبوة سید الأنبیاء محمد (ص) واعتقد بیوم الجزاء فهو مسلم حقاً، له ما للمسلمین وعلیه ما علیهم، دمه وماله وعرضه حرام، ویطلقان – یعنی الإسلام والإیمان – على معنى أخص یعتمد على تلک الأرکان الثلاثة ورکن رابع رابع هو العمل بالدعائم التی بنی علیها الإسلام، وهی خمس: الصلاة والصوم والزکاة والحج والجهاد.." إلى أن یقول: "وإذا اقتصر على تلک الأرکان الأربعة فهو مسلم ومؤمن بالمعنى الأعم تترتب علیه جمیع أحکام الإسلام من حرمة دمه وماله وعرضه ووجوب حفظه وحرمة غیبته وغیر ذلک.."[13].
[1] صحیح ابن حبان: ج1 ص181، ورواه الهیثمی فی مجمع الزوائد: ج1 ص187، وعزاه إلى البزار وقال: إسناده حسن. [2] صحیح البخاری: ج7 ص84. [3] م. ن: ج7 ص97، وأخرجه مسلم فی صحیحه: ج1 ص56- 57. [4] أخرجه ابن ماجة عن أبی ذر برقم 2543 والحدیث مروی فی مصادر الشیعة أیضاً. [5] السنن الکبرى: ج8 ص209، والکافی ج2 ص219. [6] الفتاوى الکبرى: ج4 ص239. [7] شرح سنن الترمذی للمبارکفوری: ج6 ص362. [8] شرح الفقیه الأکبر: ص62. [9] نقله فی الطبقات الکبرى: ج1 ص578. [10] السبل الجرار: ج4 ص578. [11] تحفة المحتاج فی شرح المنهاج: ج9 ص88، وقد نقل هذه الأقوال الدکتور عمر عبد الله کامل فی کتابه "المتطرفون خوارج العصر" الطبعة الأولى بیروت 2002م توزیع بیسان ص159- 161 ولیراجع أیضاً الشفا بتعریف حقوق المصطفى للقاضی عیاض: ج2 ص277، وفیض القدیر شرح الجامع الصغیر للمناوی: ج4 ص167، وفتح الباری: ج12 ص268، ونیل الأوطار: ج7 ص353. [12] نیل الأوطار: ج7 ص352. [13] أصل الشیعة وأصولها ص126- 129، طبع دار القرآن الکریم، قم- إیران.
| ||
الإحصائيات مشاهدة: 1,458 |
||