الحاجة إلى استراتیجیة شاملة لمکافحة التطرف العنیف
الکاتب: الدکتور محمد جواد ظریف*
قد یکون التطرف العنیف هو التحدی الأکثر خطورة لیس على منطقة الشرق الأوسط فحسب بل إنه یهدد العالم بأسره و المخاطر الناجمة عنه لا تقف عند أیة حدود.
هذا التهدید الکبیر الذی تسبب حتی الآن بدمار عظیم فی العراق وسوریة قد أرخى بظلاله المشؤومة على الجهات الأربعة للمنطقة. إن شمولیة التطرف و مطالباته العالمیة حتی الآن قد أظهرت مدى الآثار المدمّرة التییمکن أن یحملها للبیئة الجیوسیاسیة و الأمنیة لیس فی المنطقة فقط بل للکثیر من مناطق العالم.
إن الجرائم التی ارتکبها المتطرفون حتی الآن ومحاولاتهم العنیفة من أجل التدمیر والتطهیر العرقی فی سوریة و العراق قد هزت العالم. الهجمات الإرهابیة فی أروبا و التی قامت بها أذرع القاعدة، الجریمة المعروفة «مجزرة باجا فی 2015» على ید جماعة بوکوحرام، الهجوم الإرهابی على متحف تونس الوطنی، العملیة الإنتحاریة ضد المدنیین فی جلال آباد فی أفغانستان، ذبح 21 مسیحی قبطی مصری فی لیبیا و جریمة القتل المروعة لحوالی 147 طالب فیکینیا و التی حصلت کلها فقط فی الأشهر الماضیة تظهر أکثر من أی وقت مضى تزاید حجم التهدید الناتج عن التطرف. تم الإهتمام بهذه الظاهرة لأول مرة بعد عدوان الإتحاد السوفییتی السابق على أفغانستان الذی أدى إلى تشکل القاعدة وطالبان و مع مهاجمة أمریکا للعراق و تشکل فصائل متنوعة تابعة للقاعدة فی ذلک البلد و ظهور داعش مؤخراً قد أعطى لتلک الظاهرة أبعاداً أخرى.
الجرائم الواسعة مثل القتل، الإعتداء الجنسی، تغییر الدین الإجباری، التعذیب و استرقاق الناس التی تقوم داعش بالدعایة لها بدون خجل على مواقع التواصل الإجتماعی قد أظهرت نوع و نطاق التهدیدات الناجمة عن هذه المجموعة. إن أعضاء داعش المنتسبین إلیها من 90 دولة من کافة أنحاء العالم بما فی ذلک «الدیمقراطیات» الغربیة هی واحدة من علامات التحذیر التی تحکی إساءة استخدام العدید من الاتجاهات الهیکلیة والاجتماعیة. إن المیول التکفیریة لهذه المجموعة الإرهابیة قد سمحت لها بکل سهولة تبریر هجومها المتزاید على عدد من الطبقات الإجتماعیة حتی أنها تفتخر بذلک و تجعل من الآخرین هدفاً للقتل و النهب والإسترقاق. حتی أن جرائمها قد ذهبت أبعد من أهدافها الأساسیة لتنال أعضاء المجموعات التکفیریة الأخرى المنافسة لها. إن قیام مجموعتی داعش و جبهة النصرة بقطع رؤوس أعضاء بعضهم البعض فی العدید من الحالات یدل على مثل تلک المیول لدى هذه المجموعات. من بین تلک الحالات الحرب التی حصلت عام 2014 بین هاتین المجموعتین فی شمال سوریة حیث خلّفت ألف قتیل.
التدمیر الممنهج للمساجد التاریخیة و البقاع المبارکة و الکنائس و المقابر القدیمة و المعابد و تدنیسها و کذلک التدمیر المتعمد للآثار التاریخیة القدیمة التی تعتبر دلیلاً على التراث الثقافی الغنی للمنطقة یظهر أی مستقبل یرسمه المتطرفون للمنطقة فی أذهانهم. الجرائم الکبیرة ضد الإیزدیین تدل على سلوک المتطرفین و مخططاتهم المشؤومة فیما یخص الأقلیات. إن قتل 1700 طالب ضابط من القوات الجویة العراقیة فی تکریت فییونیو 2014 و استخدام مواقع التواصل الإجتماعی لعرض تلک الجریمة الکبرى و الإفتخار بها قد دلّ على أنه إذا لم یستطع العراقیون دحر هؤلاء المتطرفین فأی مستقبل سیکون بانتظارهم. تمثل هذه الأعمال هجوماً شاملاً ضد البنیة الإجتماعیة للمنطقة و تراثها الغنی المتنوع الذی تعتز به.
من أین نشأ التطرف العنیف؟
القیم الإنسانیة مثل العطف، حب أبناء الجنس البشری، الصبر، التسامح و العطاء کلها جزء من الرسالة السامیة التی حاولت کافة الأدیان، خاصة الإسلام، نشرها على مرّ التاریخ. لکن على مدى أکثر من قرنین ماضیین ظهرت مجموعة صغیرة من العوام المخدوعین ذات سجل مشبوه و تحت رداء الدین بتقدیم صورة مشوهة وغیر حقیقیة للإسلام. لقد قاموا بهدف الوصول إلى أهدافهم السیاسیة و المضی قدماً فی مشروعهم ذو الرؤیة القاصرة بعکس رسالة الإسلام و تحریف التعالیم الدینیة فی محاولة منهم لنزع صفة الرحمة و العطف عن الدین. على هذا الأساس قامت الجماعة التکفیریة و أتباعها بالتشدد بشکل کبیر تجاه من یعارض مثل هذا التفسیر معتبرة أنهم خارجون عن الدین.
بناءاً على هذه التفاسیر الواهیة و أمثالها قاموا برفض الأحادیث المخالفة لآرائهم کما قاموا بتکفیر کل من لدیه عقائد مختلفة أو ینتمی إلى مجموعة سکانیة مختلفة. فهم یزعمون أنهم الوحیدون الذین لدیهم فهم صحیح للإسلام و أنهم یملکون الحقیقة بأکملها. هذه الرؤیة هی جوهر التکفیر، و برأیی فإن جمبع المعضلات الحالیة فی المنطقة و التطرف الموجود ینبع من تلک الرؤیة.
طالما أن مثل هذا التفسیر للدین محصور بمجموعة صغیرة من المعتقدین به، فإن أولئک المعتقدون کانوا ومازالوا قادرین على امتلاک آرائهم. حدثت المشکلة عندما تعهّد أشخاص یتمتعون بالثروة و القوة بنشر هذه التفاسیر الجاهلة فی الدول الإسلامیة البعیدة و القریبة و فرضها على الناس فی المجتمعات الفقیرة بمساعدة المال و الدعایة. هذه المرة لم تکن أولویة هذه المجموعة من الأغنیاء و المتنفذین «النقاء الدینی» بل کانت اعمالهم قائمة على أساس أهداف سیاسیة خاصة و جزء من الحسابات الإستراتیجیة قصیرة النظر. لذلک و للأسف انجذبت مجموعات و أشخاص بسبب ظروفها الإجتماعیة و الإقتصادیة لتلک الإیدیولوجیات المتطرفة. من جهة اخرى و بینما کانت غالبیة الأشخاص الذین یعتقدون بالتفاسیر التکفیریة تتجنب دائماً استخدام القوة لنشر و فرض آرائها إلا أن بعضا منهم قد حملوا السلاح حتی أنهم تمردوا فی بعض الحالات ضد أسیادهم. فی هذه النقطة بالذات نتج التطرف العنیف.
الحلقة المفرغة للتدخل الخارجی، التطرف و عدم الإستقرار الإقلیمی
مع أن البحث عن جذور داعش و شرکائها فی السیر التاریخی للتفاسیر المشوهة للإسلام کما بینا هو أمر ضروری، لکن فی الوقت نفسه یجب أن ننتبه إلى الدور الهام للتطورات الدمویة فی العراق خلال العقد الأخیر فی تشکل و نمو المجموعات المتطرفة الموجودة.
إن التدخل السیاسی والعسکری فی العالم الإسلامی خاصة فی الألفیة الثانیة قد خلق ظروفاً متأزمة ساعدت فی تمهید الأرضیة المناسبة لتشکل المجموعات المتطرفة العنیفة.
داعش لیست ظاهرة جدیدة. الآن هناک إجماع أن المتطرفین العنیفین قد استفادوا من الفوضى العراقیة أثناء مرحلة احتلال ذلک البلد من قبل أمریکا. فمجموعة مثل داعش تتغذى وتنمو على الإنهیارات والفوضى قد نمت و ترعرعت فی ظل عدم الإستقرار والفوضى التی حدثت بعد مهاجمة أمریکا للعراق عام 2003. کما حصل المتطرفون فی أحداث الأزمة السوریة و بمساعدة الدعم الذی تلقّوه من الأشخاص و الأوساط و الحکومات على أجواء مناسبة، فوضعوا أهدافاً مزیفة و تحولوا إلى غول لدرجة أنهم الآن یهددون حتی مؤسسیهم وداعمیهم. إن دعوتهم العابرة للحدود للشباب الفقراء الذین لا هدف لهم فی الدول العربیة بعد الفشل النسبی «للربیع العربی» و کذلک فی الدول العربیة قد ساعدهم على تعزیز صفوفهم و النمو بشکل سریع.
التدخل العسکری مترافقاً بالمساعی غیر الناضجة من اجل الهندسة الإجتماعیة لمجتمعات الشرق الأوسط یعکس عمق الهلوسة لدى واضعی السیاسة الأمریکیة و بعض القوى الغربیة للمنطقة. إن ما یعرف بمصطلح «مبادرة الشرق الأوسط الکبیر» و هدفه هندسة مجتمعات الشرق الاوسط من الناحیة الإجتماعیة و السیاسیة بهدف تصدیر «الدیمقراطیة» قد أمّن الإطار النظری للتدخلات العسکریة . هذه المبادرة لاقت مقاومة شدیدة على مستوى المنطقة واستطاعت فقط أن تحقق عدم استقرار أکبر فی المنطقة. إن واضعی ذلک المشروع کانوا عاجزین عن فهم شیء مهم و هو أن الدیمقراطیة لا یمکن أن تفرض على شعب بقوة السلاح و لا الدیمقراطیة یمکن أن تتشکل فی مجتمع خاضع لحکومة جیش محتل. إن الخسائر التی لحقت بالعراق والمنطقة و الناجمة عن مساعی تحقیق هذا المشروع کانت کبیرة و عمیقة لدرجة أن سنوات من السعی لتعویض تلک الخسائر لن یکون له نتائج تذکر.
هدف هذه السیاسات التی تشکلت على أساس الجهل الکامل بالدینامیات الذاتیة للمنطقة هو فرض نموذج غریب بالکامل عن صفات المنطقة و متناقض مع العادات والتقالید و طریقة حیاة المجتمعات المحلیة. عدم الإستقرار الکبیر الذی حصل بسبب ذلک فی العدید من المجتمعات فی المنطقة قد أمّن الأرضیة لتنامی قوة المتطرفین العنیفین و حصلت حلقة مفرغة تسببت فی تعزیز الإحتلال الخارجی والتطرف لبعضهما بحیث أصبح المتطرفون یتغذون على الإنقسامات الإجتماعیة و الثقافیة التی حصلت. إن تخمین مثل هذا الوضع لم یکن بالأمر الصعب. فیکلمة لی فی مجلس الأمن فی 17 فبرایر2003 قلت مایلی:
»الیوم، عدم الإستقرار فی المنطقة و عدم الثقة بمستقبل العراق یقفان وراء تصورنا. نظراً لظروف المجتمع العراقی و نظراً للوضع فی المنطقة کلها فإن هناک العدید من النقاط الغامضة ولا یستطیع أی طرف بأی درجة من الیقین أن یأخذ بعین الإعتبار ذلک الغموض بشکل مسبق. لکن هناک نتیجة مؤکدة تقریباً و هی أن التطرف سیستفاد کثیرا من هذه المغامرة غیر المحسوبة فی العراق«.
لا یمکن لأحد الیوم أن ینکر أن المتطرفین والإرهابیین فی الوقت الحالی أقوى بکثیر مما یمکن لزعمائهم الذین خدعوهم فی عام 2001 تصدیقه أو تصوّره و أنهم سیقومون بعملیات فی مناطق أکثر من الشرق الأوسط.
ما هی علیه داعش و ما لیست علیه؟
داعش لیست مجموعة إسلامیة: إن وجود و أهداف هذه المجموعة لا علاقة له بالإسلام الذی أسسه القرآن المجید و الرسول الأکرم. إن داعش تستغل الإسلام کأداة لجمع أعضائها و جمع المال. الإسلام دین الرحمة والعقلانیة و کذلک دین التسامح و الشفقة. جمیع المسلمین المؤمنین و المتعبدین یبدأون یومهم بعبارة «بسم الله الرحمن الرحیم» وهم یکررونها مرات و مرات فی دعائهم وصلاتهم الیومیة لیتذکروا دائماً أهم صفات خالقهم، تلک الصفات التییجب على عباد الله جعلها نموذجاً لهم و دلیلاً لحیاتهم الأخلاقیة فی هذا العالم و سعیهم للفوز فی الآخرة. السلوک الظالم و الأعمال الوحشیة التی تقوم بها داعش ضد الأقلیات الدینیة فی العراق وسوریة تخالف بشکل کامل التعالیم القرآنیة القائمة على أساس «لا إکراه فی الدین»(سورة البقرة الآیة256) کما ان القرآن المجید یؤکد أن « مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَیرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِی الْأَرْضِ فَکأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِیعاٌ»(سورة المائدة الآیة32) بناءاً على هذه المقدمة فإن أکثر المسلمین یعتبرون أعمال داعش و حلفاءها معادیة للإسلام و من الناحیة الأخلاقیة تدعو للإشمئزاز کما یعتبرونها رؤیة معاکسة للرؤیة الإسلامیة و تخالف عمل ملیار مسلم على مرّ التاریخ.
کان المسلمون و أتباع المذاهب الأخرى یعیشون إلى جانب بعضهم لعدة قرون فی المنطقة. إن وجود مقامات و آثار تاریخیة للمسلمین و الفرق والمذاهب غیر الإسلامیة منذ فجر الإسلام وحتی قبل ذلک بکثیر فیکافة أنحاء الشرق الأوسط هی شاهد حی على التعایش السلمی لکثیر من الناس فی المنطقة. إن تدمیر هذه الآثار القیمة من الماضی على ید المتطرفین یظهر إلى أی مدى هم غرباء عن الدین الإسلامی و الطریقة السائدة فی العالم الإسلامی.
إنهم ینتهکون مبادیء الإسلام الأساسیة التی لها جذور فی الرحمة و الإیثار و تم التأکید علیها مرات عدیدة فی القرآن و سنة الرسول الاکرم، سعیاً منهم لتشویه الإسلام و تحویله إلى أداة لخدمة الأحادیث المنحرفة و الأهداف الموضوعة على جدول أعمالهم. مع الإهتمام بهذا الامر فإنه یمکن القول على الأقل أن تأنیب الإسلام بسبب ما یقوم به المتطرفون بعید کل البعد عن الصدق. کما أن ما یثیر الإهتمام هو أن الکثیر ممن یحاولون الیوم تأنیب الإسلام بسبب ما یقوم به المتطرفون هم أنفسهم من خلقوا الظروف لتدخل الحکومة الأمریکیة السابقة فی العراق و دافعوا عن ذلک، إنهم بهذا العمل یحاولون إخفاء دورهم فی ظهور المتطرفین و أن یظهروا الإسلام على أنه المسؤول عن الوضع المؤسف الذین کانوا السبب فی حدوثه فی العراق و المنطقة.
داعش مجرد فرقة مدمّرة. بشکل کلی، کل مجموعة متطرفة بغض النظر عمّا تعتقده فإنها یمکن أن تتحول فی مرحلة من تطورها إلى فرقة مدمّرة؛ کما أن داعش غیر مستثناة من تلک القاعدة. مع هذا الفرق و هو أن داعش منذ بدایة ظهورها کانت فرقة مدمّرة ذات قیادة مستبدة، شمولیة، مهیمنة و نظام قیادة أنانی. یستخدم قادة هذه المجموعة طرقاً خاصة لضم الاعضاء و التحکم بعقلهم و إجباره على ارتکاب أنواع الجرائم کما یحاولون المحافظة على مناطق سیطرتهم عن طریق بث الرعب و العنف الذی لا حدود له.
الأسباب التی ساعدت على نمو داعش
خلال العام الماضی تم طرح مواضیع حول سبب نمو داعش و نجاحها فی السیطرة على قسم من أراضی العراق و سوریة. هذا النجاح یعود فی الغالب إلى أسباب مثل ضعف الحکومات المرکزیة، الدعم العسکری والمالی لبعض دول المنطقة و کذلک بعض المسؤولین و العناصر التکفیریین الأغنیاء، الضعف المتعمد أو الغفلة فی السیطرة على الحدودد التی تؤمن التحاق أعضاء جدد بالمجموعة، الحصول على ترسانة سلاح کبیرة فی سوریة والعراق، الخبرة الناتجة من الحرب ضد أمریکا فی العراق خلال سنوات طویلة و التمتع بدخل ناتج عن النفط و التهریب.
فی الوقت الذی تعتبر فیه العوامل التی أشرنا إلیها مهمة فی تعزیز موقع داعش إلا أن هناک عامل مهم آخر لا یجعل داعش فقط قادرة على السیطرة واحتلال الأراضی، بل إن الإشارة إلى ذلک العامل مفید لشرح طبیعة هذه المجموعة. ذلک العامل عبارة عن الدور الرئیسی الذییلعبه الأعضاء السابقون فی حزب البعث العراقی و ضباط جیش صدام فی الأمور المتعلقة بتوجیه و قیادة داعش و بقیة المجموعات المماثلة فی العراق وسوریة. إن اتحاد داعش مع شبکة من عناصر تابعة لصدام حسین هی السبب الأساسی لنجاح هذه المجموعة فی بعض المعارک و کذلک تحولها من مجموعة إرهابیة انتحاریة إلى مجموعة إرهابیة- متمردة تسیطر على بعض المناطق.
هذا الإتحاد فی المصلحة قد أدى إلى تطور أسالیب داعش الإرهابیة عن طریق التنظیم و الحصول على مهارات عسکریة تقلیدیة. لم یکتف البعثیون بوضع خبراتهم العسکریة تحت تصرف داعش بل قاموا بوضع شبکة التهریب التی ابتکروها للإلتفاف على الحظر المفروض فی التسعینات ضد العراق لخدمة أهداف داعش. جاءت مساعدة البعثیین لداعش على أمل إعادة النظام السیاسی السابق إلى العراق؛ ذلک النظام الذیکان فیه الشیعة و الأکراد وجمیع المجموعات السکانیة فی البلاد و من بینها الغالبیة السنیة تخضع لسلطة عصابة صغیرة حاکمة و تتعرض لمختلف أنواع القمع. فی هذه الحالة و نظراً لتوازن القوى و طبیعة داعش فلا شک أنه سیتم استخدام البعثیین کأداة و لفترة قصیرة ثم سیتم إلغاءهم.
الحاجة لاستراتیجیة شاملة لمحاربة التطرف العنیف
على أساس الإجماع الکبیر الموجود على المستوى الدولی فإن داعش وجود مجرم یجب هزیمته و یجب تقدیم القائمین علیه للقانون. هذا الإجماع یدل على أن للمجتمع الدولی مصلحة مشترکة فی هزیمة داعش و المجموعات المشابهة له و من بینهم الذین یثیرون النعرات الطائفیة. على الرغم من أن هذا الإجماع الواسع یعتبر امتیازاً کبیراً إلا أنه لم یجد حتی الآن طریقة لترجمته على شکل مجموعة من الاعمال الهادفة و المؤثرة. کما ان المجتمع الدولییعانی من فقدان استراتیجیة شاملة و متسقة و منسجمة لمواجهة التطرف العنیف. مثل هذه الإستراتیجیة یجب أن تعالج القضیة بمجملها و من أجل هذا الهدف لا بد لتلک الإستراتیجیة من أن تشمل العناصر التالیة:
1- تلک الإستراتیجیة یجب أن تکون جدیة، عالمیة، قانونیة و تشارکیة لا تمییز فیها و تجنّب اتخاذ طرق انتقائیة قائمة على أنماط قدیمة للعبة القوى. فی مثل هذه الحالة یجب على کافة اللاعبین إعطاء الأولویة للإعتبارات السیاسیة بدل القمع المتطرف. تلک الإستراتیجیة یجب أن تؤمن أرضیة لتغییر دائم یلتزم فی إطاره کافة اللاعبین بمحاربة التطرف بعیداً عن استخدام ذلککأداة لتحقیق أهداف سیاسیة و یصب فی سیاق محاربة المجموعات المتطرفة بعیداص عن التعامل الإنتقائی و المعاییر المزدوجة. یجب عدم استغلال التطرف کوسیلة جدیدة لمهاجمة الأعداء. فالتطرف أخطر و أبعد من أن یبقى فی نطاق دولة ما أو منطقة ما. المواجهة الجدیة لداعش و المجموعات المشابهة له یتطلب تطوراً معرفیاص و نقلة نوعیة.
2- هذه الإستراتیجیة یجب أن تکون قائمة على معاییر و مبادیء القانون الدولی و محتوى میثاق الأمم المتحدة، خاصة أصل تجنب التهدید أو استخدام القوة ضد الدول الأخرى. لا یمکن استئصال ای تهدید عن طریق تعزیز أسسه و تشدید فرص العضویة فیه.
3- هذه الإستراتیجیة تتطلب أن تتم أی حرب ضد التطرف فی الوهلة الأولى فی المجالات الثقافیة و الإیدیولوجیة. لذلک فإن الإستراتیجیة الناجحة هی الإستراتیجیة التی تقوم بتعبئة کافة القادة الدینیین و الإجتماعیین و وسائل الإعلام و الجامعات ومواقع التواصل الإجتماعی و الأدوات المشابهة لذلک من اجل رفض التفاسیر المشوهة و العنیفة للأدیان، و فضح فلسفات الکراهیة و العنف التی تخالف فی الأساس المبادیء الأولیة للتعالیم السامیة لکافة الأدیان. یجب على قادة الادیان فیکافة أنحاء العالم الوقوف فی الصف الأول من أجل فضح الأفکار المزیفة للمتطرفین بدون أیة مواربة طائفیة و رفض الهجمات ضد الأقلیات العرقیة والدینیة.
4- هذه الإستراتیجیة یجب أن تهتم بعوامل مثل الدیکتاتوریة، الفقر، الفساد والتمییز التی تسبب خلق بیئة و أجواء مناسبة لنمو التطرف. کما یجب الأخذ بعین الإعتبار إهمال الشباب فی الغرب من النواحی الإقتصادیة و السیاسیة الثقافیة و کذلک إجراءات التمییز التی لها اثر مماثل على المهاجرین الاجانب فی الغرب. کما أن استمرار احتلال فلسطین و کوارث الشعب الفلسطینی و وضعه المؤسف هو أداة مؤثر أخرى بید المتطرفین مثل داعش من أجل جذب الأعضاء إلیها یجب حلها.
5-هذه الإستراتیجیة یجب أن تضم إجراءات ضد الإسلاموفوبیا التی تضع المتطرفین العنیفین و المسلمین الحقیقیین فیکفة واحدة و بهذه الطریقة تجعل منهم أداة بید داعش وبقیة المجموعات التکفیریة الاخرى و تصب بشکل مباشر فی مصلحتهم. فی الوقت الذییجب فیه إدانة التمییز العنصری و معاداة السامیة بشکل صریح و هذا فی الحقیقة ما نقوم به، فإنه یجب على الجمیع فی الوقت نفسه إدانة محاربة الإسلام و الإساءات الواضحة لقیم و معتقدات و مقدسات المسلمین أیضاً و العمل على تجریم تلک الأعمال. یجب إعادة النظر فی الإسلاموفوبیا على أنها شکل من أشکال التطرف الذییحرض بشکل أو بآخر على العنف و بهذه الطریقة یتم إدانة و استنکار کافة أشکال التطرف العنیف.
6- فی هذه الإستراتیجیة یجب على کافة الدول الإقلیمیة و اللاعبین الدولیین منع حصول المتطرفین على المال و الأعضاء الجدد و بقیة الموارد الأخرى من أجل نشر القتل فیکافة أنحاء المنطقة و من خلف ذلک المتعاطفون و المتحالفون معهم. فی هذا الخصوص یجب اتخاذ إجراءات جادة بهدف إنهاء الدعم المادی و المعنوی و الدعم المالی للمتطرفین الذیینبع من القطاع الخاص و العام أو أشخاص من داخل و خارج المنطقة. إن التصدی لتنقّل الإرهابیین بحریة عن طریق إعمال الرقابة الفعالة على الحدود، تعطیل الشبکات التی تتولى الدعم المادی ومساندة الإرهابیین و کذلک تبادل المعلومات حول نشاطات المتطرفین له أهمیة کبیرة فی نجاح تلک الإستراتیجیة. فی إطار هذه الإستراتیجیة یجب تشجیع المجتمع الدولی و من بینها الدول الغربیة( إذا کانت حقیقة ترغب بهزیمة داعش) لتقدیم مساعدة عسکریة و دعم سیاسی لدول المنطقة من أجل المواجهة الحقیقیة لداعش و بقیة المجموعات المتطرفة.
7-یجب ، تشمل هذه الإستراتیجیة تشجیع کافة الدول لتقدیم مساعدة للدول التی تحارب المتطرفین بشکل مباشر. یجب على تلک الدول أن تسعى لتعزیز وحدتها الوطنیة و العمل على تحصین وحدة أراضیها. مثل هذا النهج یستلزم السعی للتصدی للقوات الخارجة عن الحکومة المرکزیة و عدم التدخل فی العلاقة بین الشعوب و الفرق المختلفة فی تلک الدول. إن أیة استراتیجیة تؤدی إلى إضعاف مسؤولی تلک الدول أو تؤدی إلى إضعاف الطبقات المختلفة التی تقدم الدعم لمواجهة المتطرفین ستؤدی بالتأکید لإخفاق الحرب ضد داعش و أذنابها.
8- یجب أن تقوم تلک الإستراتیجیة على ضرورة محاربة داعش والمجموعات المماثلة لها و اجتناب الدول خاصة فی الشرق الأوسط إضعاف الجبهة الموحدة ضد التطرف بکافة أشکاله. الحرب ضد الیمن هی إحدى الحالات الواضحة التی تؤدی إلى تشجیع القاعدة فی شبه الجزیرة العربیة و بقیة المجموعات المتطرفة فی ذلک البلد و خلق أجواء أکبر لها. فبدل أن نقوم بقصف أراضی و مطارات الآخرین یجب علینا أن نتحد ضد داعش. إن التفاهم بین الدول و الأجنحة المعارضة ضد داعش و أذنابها یؤمن ظروفا مساعدة لمحاربة المتطرفین. إضافة إلى ذلک فإن السعی لإضعاف من أثبتوا التزامهم بمحاربة داعش و فی المقابل زعزعة التماشی معهم فی هذا الطریق یمکن أن یؤدی فقط إلى إضعاف الجهود لمحاربة واستئصال التطرف.
إن الإیرانیین على اختلاف أعمارهم و توجهاتهم الفکریة، خاصة الشباب، کانوا و مازالوا مصممین على رفض التطرف العنیف بکل اشکاله من طالبان والقاعدة فی أفغانستان حتی داعش وبقیة المجموعات المماثلة فی الیمن و العراق و سوریة. تفتخر إیران بأنها ضمن دعمها للقوات المعارضة لطالبان قد لعبت دوراً أساسیاً فی منع تثبیت حکومة المتطرفین فی أفغانستان فی التسعینیات، کما أظهرت عزمها المؤکد على مساعدة الحکومة العراقیة والتنسیق معها من أجل مساعدة کافة الأشخاص المعرضون لخطر داعش.
عندما تفاجأ الجمیع بأحداث أول حملة مفاجئة قام بها هذا التنظیم فییونیو و یولیو 2014 وصلت إیران قبل الجمیع إلى المیدان لمواجهة ذلک التحدی و قامت بإرسال مستشارین و معدات عسکریة لصد هجمات داعش على بغداد و أربیل و آمرلی. کما أن تقدیم المشورة و التدریب للقوات العراقیة خلال الأشهر الأخیرة قد أثمر فی طرد داعش من بعض المناطق التیکانت تسیطر علیها فی غرب العراق.
نحن مازلنا نواجه بحزم التحدیات الموجودة على الجبهات الإیدیولوجیة و الثقافیة. ففی الوقت الذیکان البعض فی عام 2001 یسعون وراء الحرب المدمرة و الهندسة الإجتماعیة فی المنطقة اقترحت إیران «البرنامج العالمی لحوار الحضارات» حیث تمت المصادقة علیها فی ذلک العام من قبل الجمعیة العامة للأمم المتحدة. الآن و بعد النجاحات الکثیرة التی حققها المتطرفون على الصعید العسکریکانت مبادرة الرئیس الإیرانی حسن روحانی «عالم خال من العنف والتطرف» تحذیر واضح للعالم حول هذا التهدید. لقد رسمت تلک المبادرة التی صادقت علیها الجمعیة العامة للأمم المتحدة فی عام 2013 طریقاً واضحاً لمحاربة التطرف والعنف. إذا تم تطبیق هذه المبادرة و القرار المتعلق بها بشکل جید فإنه من الممکن أن تمنح لشعوب المنطقة و بقیة الشعوب إمکانیة مواجهة هذا التحدی بشکل مؤثر.
إن إیران و بناءاً على الخبرة التیکسبتها حتی الآن و مساعیها فی محاربة و هزیمة وباء التطرف العنیف مستعدة للمساعدة بکل مساعیها الحقیقیة و الشاملة فی هذا المجال على المستوى الثنائی و الإقلیمی و الدولی. إن التعاون على کافة هذه الاصعدة ضروری من أجل هزیمة داعش و القاعدة و جبهة الصرة و المجموعات المماثلة، لأن هذه الحرکة لا تهدد فقط المجتمعات على مستوى المنطقة بل تعداها لتهدد دولاً على مسافات أبعد من مرکز هذه الازمة . نأمل فی أن تلتزم کافة الأطراف التی لها مصلحة فی هذا المجال على مستوى المنطقة والعالم و أن یکون لها حصة فی هذا الطریق المشترک.
* الدکتور محمد جواد ظریف؛ وزیر الخارجیة الإیرانی. فی مقالة له فی المجلة العلمیة- التخصصیة لجامعة هارفارد الأمریکیة تحت عنوان «مراجعة لهارفارد الدولیة» قام الدکتور محمد جواد ظریف بدراسة جذور العنف و التطرف فی منطقة الشرق الأوسط معرباً عن استعداد الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة للمساعدة فی التصدی للعنف و التطرف العنیف على کافة المستویات الثنائیة الإقلیمیة و الدولیة.
واعتبر ظریف أن مبادرة الرئیس الإیرانی الدکتور حسن روحانی فیما یخص عالم خال من العنف والتطرف بمثابة تحذیر واضح للعالم حول التهدید الجدّی للعنف والتطرف.
المصدر: قدس أونلاین